map
RSS instagram youtube twitter facebook Google Paly App stores

عدد الضحايا

حتى اليوم

4256

يغري المستمعين بموسيقاه ويأسرهم بها.. عازف بيانو فلسطيني سوري يسعى لغزو قلوب الألمان

تاريخ النشر : 07-08-2016
يغري المستمعين بموسيقاه ويأسرهم بها.. عازف بيانو فلسطيني سوري يسعى لغزو قلوب الألمان

بصرخة فجائية يبدأ عازف البيانو عرضه الموسيقي. ربما تكون كلمات الأغنية عربية ولا يفهمها الجمهور الذي يحضر الحفل في ألمانيا، لكن الأذن يمكنها استيضاح الألم إن قيل بأي لسان.

تحمل أغنياته تساؤلاً يرسله إلى السماء، إذ يسأل كيف للسماء أن ترسل إلينا كل ذلك البلاء؟

يعزف الشاب ويغني أمام جمهور ألماني في مدينة هادئة معروفة بالحكايات الخيالية. لكنه لا يشغل خلده سوى بالمنطقة المنكوبة والفقيرة التي عاش بها في سوريا، حيث بدأ بها قبل أعوام قليلة من مجيئه لاجئاً إلى ألمانيا، مشواراً مهنياً يبدو غريباً، وذلك من خلال العزف فوق الأنقاض، وفقاً لما نشرته صحيفة The New York Times الأميركية.

يتقافز العازف ويتمايل برأسه مع انحناءة طفولية بسيطة، ثم يقول أثناء تقديم نفسه: "أنا آسف، فلست عازف بيانو جيداً. تعلمت العزف في سوريا. وليس العزف هناك مثلما يعزف موتسارت أو باخ، لكنها الطريقة التي نعزف بها".

في ألمانيا التي صارت منقسمة مؤخراً حول استقبال ملايين اللاجئين خلال العام الماضي أو الخوف من ذلك الأمر، يتولى أيهم أحمد بنفسه مسؤولية إضفاء وجه إنساني حقيقي على قضية اللاجئين أمثاله. ويكمن مبتغاه في تسهيل عميلة اندماج اللاجئين بل ومساعدة ملايين آخرين، بمن في ذلك زوجته وأطفاله الذين تركهم خلفه في مخيم اليرموك.

وقد صارت تلك المهمة ضرورية خلال الآونة الأخيرة بعد أن عانت ألمانيا من صدمة جراء هجومين منفصلين ارتكبهما لاجئان مرتبطان بتنظيم الدولة الإسلامية، حاولا قتل مدنيين. وقضى المهاجمان وحدهما في الهجومين، إلا أن تلك الهجمات خلّفت وراءها كثيراً من الألمان في حالة غضب وقلق، بل وعلى استعداد لإغلاق أبواب ألمانيا أمام اللاجئين الجدد. كما تنتشر أحاديث فعلية حول تسريع وتيرة ترحيلهم من ألمانيا.

يغريهم بالموسيقى 

على خشبة المسرح يغري أحمد المستمعين بموسيقاه ويطمئنهم، بل ويأسرهم بها. فهو يحكي عن رحلته من القصف والجوع والاضطهاد، ويغني عن المآذن وأجراس الكنائس من خلال "الدعوة للسلام"، ويعلنها صراحة "الإرهاب لا دين له"، واللاجئون جاءوا من أجل "بناء ألمانيا وليس إيذائها".

ويحمل بكلماته رسالة يقول فيها: "سيذكر التاريخ أن ألمانيا احتوت المسلمين"، ثم يواصل ترديد أغنية طفولية ألمانية شهيرة ليرددها الجمهور خلفه.

وفي نهاية اليوم يغادر أحمد القاعة كالمعتاد بعد أن يمطره وابل من الأحضان وصور السيلفي.

بيد أنه عندما يعود إلى غرفته الصغيرة في مدينة فيسبادن، فإنه يمزق روحه من الداخل على الدور الذي أداه بنجاعة: "اللاجئ الطيب"، الذي يجعل "الألمان الطيبين" يشعرون بشيء جيد حول أنفسهم. ولا يمكنه المساعدة لرؤية لمسة فنية خلال الحفل الغنائي من تصرفه، فيتخيل كيف قد يبدو في أعين الألمان: مجرد عمل خيري، أو حيوان مُدرب يرقص من أجل الحصول على هدية صغيرة.

ويقول أحمد في إحدى الأغاني إنه لاجئ كالجرو، إنهم يلعبون معه وهو يلعب ويشعر بالسعادة.

أشهر لاجئ بألمانيا

وقبل أن تبدأ الأزمة السورية كان أحمد، وهو من أبناء الجيل الثالث من اللاجئين الفلسطينيين وأبوه عازف كمان فقد بصره، مدرس بيانو وبائعاً في محل لبيع الأدوات الموسيقية. أما الآن، فهو يحمل رسالة تشير إلى القدرة على التعايش تماشياً مع رغبة الألمان في أن يحصلوا على رمز للطمأنينة، ما جعله أشهر لاجئ في ألمانيا.

فهو يغني ويلعب، وفي بعض الأوقات يضرب بأصابعه على البيانو في حسرة وغضب.

وفي كل ليلة يكون أحمد محجوزاً لعرض مختلف، فينتقل بكل أنحاء البلاد، بدءاً من الملاعب الرياضية وحتى الحانات المحلية المتواضعة. فقد ظهر في عشرات الصحف الألمانية الراقية، كما حصل على جائزة تحمل اسم أحد معشوقيه، وهي جائزة بيتهوفن. كما تواصلت معه شركة كريستينا أغيليرا لإنتاج الأفلام.

في أحد الأيام التي كان ينتقل خلالها بين الملاعب بأحد القطارات فائقة السرعة، قال الشاب: "أشعر أنني أُخرجت من الحياة الحقيقية".

فقد كبر مستمراً في الاستماع إلى أبيه وهو يغزل قصة حياته ويحولها إلى أسطورة، فيصف الأمر قائلاً: "مثلما تخبر حكايات عن السندباد البحري". ولكن حتى القصة الحقيقية لحياة عازف كمان أعمى تولى تعليم نفسه بنفسه، تتضاءل أمام رحلته الخيالية هارباً مما يجري في بلده على حطام سفينة ليتحول إلى شخصية مشهورة منفية ولا تشعر بالراحة.

ففي كل ليلة على خشبة المسرح، يعيد تصوير الرحلة. وفي كل رحلة يخوضها بين الحفل الغنائي والذي يليه، يعيد تذكر وتمحيص تجربته بلا رحمة، باعتباره يمثل شخصية الفنان المتشكك في موهبته التي اعتاد أن يحيا داخلها دوماً.

يعترف أحمد قائلاً: "أشعر وكأنني ضفدع يتم تشريحه"، ثم ينهار مستريحاً على كرسي في بداية الرحلة التي ستتطلب ركوب 4 قطارات وستستغرق 5 ساعات حتى يصل إلى محطته القادمة التي سيؤدي فيها الحفل، والذي سيشارك فيه كالمعتاد مجاناً بسبب القيود التي توضع أمام عمل اللاجئين.

يقول أحمد: "إنني أبيع نفسي، وحتى الثمن المقابل لا أحصل عليه".

والأسوأ من ذلك، أنه يتساءل إن كان ما يفعله يتسبب في إحداث أي فارق، فيقول: "إنهم يصفقون من أجلي، لكن البقية (في سوريا)، لا يزالون في السجون وتحت الحصار وتحت القصف".

فيوبخه صبيته قائلين: "لم ترسل إلينا طائرة لكي تجلبنا إلى هنا".
وعن ذلك يعبر قائلاً:

يا الله، أوقف العالم الدوران.
لا يمكنني تحمل أكثر من ذلك.
أشعر بدوار في رأسي، وأريد السقوط.

الهدف أن نبقي جميعاً متعقلين

وقد بدأت حياة أيهم أحمد، عازف البيانو اللاجئ، منذ 3 أعوام عندما وضع آلته الموسيقية في شارع ممتلئ بالبنايات المدمرة والحوائط المنهارة والخيم التي تعاني من أحوال سيئة، وبدأ في الغناء وسط كل ذلك.

عاش الشاب في مخيم اليرموك الموجود بضواحي العاصمة السورية دمشق، وقد بدأ ذلك المخيم في إيواء اللاجئين الفلسطينيين منذ خمسينات القرن الماضي. وخلال تلك السنوات، توسع المخيم ليصير منطقة كبيرة تأوي نصف مليون من الفلسطينيين والسوريين.

لكن الحرب الدائرة في سوريا التهمت نيرانها المخيم. فقد طوقته القوات الحكومية، كما دكته تارة بالمدفعية ومرات أخرى من خلال الغارات الجوية. وتتنافس المجموعات المسلحة فيما بينها من أجل السيطرة على المخيم. ليبدأ عدم القدرة على توفير الطعام والدواء بصورة منتظمة في التسبب في مقتل أهل المخيم، وأكثر حالات الوفاة يكون المتسبب فيها الجوع الشديد الذي ينتهي بالموت.

وعندما كان أحمد في سوريا، لم يكن جمهوره سوى من جيرانه الذين حوصروا معه. وحتى هدفه من ذلك كان متواضعاً بدرجة مؤلمة، إذ أنه أراد ألا يفقد الجميع عقولهم.

فيقول في أحد التسجيلات غير المكتملة عبر الإنترنت عندما كان في المخيم إنه أراد أن يعطيهم حلماً جميلاً لكي يلونوا اللون الأسود إلى لون أقل سواداً، ولو كان رمادياً.

وعزف أحمد خلال تلك الفترة مع مجموعة من الشباب الصغار في فرقة صغيرة كانت تسمى "فرقة شباب اليرموك". إذ كانت بعض أغانيه حزينة، فكان ينادي على الذين تركوا المخيم في إحدى الأغنيات قائلاً: "يا شعبي الغالي يا مهجر، بيكفي برة تتمرمر. يلا عودوا يا أحباب، بيكفينا طال الغياب".

كما أن بعض الأغاني حملت طابعاً ساخراً من العرب ومن قادتهم. وفي أحد الأغاني كان طفله الصغير يجلس أعلى البيانو، وبعض الفتيات والنساء الكبار شاركن في الغناء، فضلاً عن أبيه الذي يشارك في العزف من خلال الكمان الذي يمتلكه.

ولم تمر فترة طويلة حتى انتشرت الفيديوهات التي يصورها أحمد على شبكة الإنترنت، ففي البداية انتشرت بين أوساط السوريين ثم اتسع انتشارها، فهي تحمل رسالة مغايرة لصورة الحرب الدامي الذي تسبب في إيذاء كثير من أنحاء العالم.

وقد صار أحمد رمزاً للأمل والتحدي وبدأ أن يحمل مهمة أكبر من خلال نقل صورة توضح أن ثمة بشراً عالقون داخل اليرموك.

ففي أحد الفيديوهات قال أحمد: "كل الأشخاص ضد المدنيين".

وفي نهاية الأمر ساعدته شهرته في الهرب من الحصار لكي يشارك المهاجرين الذين غنى من أجل عودتهم فيما سبق. وقد ساعد ذلك على أن يجعله يبدو ازدواجياً، بل وجعله يحمل ذنب الباقين على قيد الحياة بصورة كبيرة.

كما ساعدني ذلك على مقابلة زميلتي هويدا سعد، بعد سنوات من المراسلات عبر شبكة الإنترنت، وذلك في الميدان الرئيسي لمدينة فيسبادن في ظهيرة أحد الأيام أواخر فصل الربيع الماضي، عندما قابلت أحمد وجهاً لوجه للمرة الأولى.

"أنا أذكر اليرموك"

ومن الواضح أنه بالفعل تغير كثيراً. فهو يركب دراجته بثقة متجهاً نحو المقهى، وخفيفاً مثل العصافير، ومرتدياً قميصاً مخططاً وجينزاً ضيقاً، ويلتهم قطعة الإكلير. كما تعلم بعض المعزوفات الإنكليزية القصيرة. فعندما رن جرس جواله، والذي لا يتوقف عن ذلك لفترة طويلة، انتشى الشاب في نبرة عملية لعازف مشغول للغاية بكل معجبيه.

يخبر المتصل قائلاً: "أنا أتحدث إلى ملايين الناس عبر التلفيون. أنا آسف، ولكن أي من تلك الحفلات هي حفلتك".

وكان أول الأشياء التي أخبرنا بها أنه لا يرغب في إضفاء صفة لطيفة على تجربة المنفى، أو أن يكون الطفل المدلل لأي شخص لكي تنظر أوروبا إلى الأمر بأنه النهاية السعيدة للحكاية.

يقول أحمد: "هم يعتبرونني نجماً، ولكنهم لا يزالون ينظرون إلينا بمرح".

ويوضح أنه يتساءل كيف يكون الشعور أن تعزف في ألمانيا، والآن يرغب في الإجابة بصراحة عن ذلك السؤال، إذ يقول: "أنا لا أشعر بشيء. فأنا أغلق عيني عن كل الأشياء التي تدور حولي، وأعزف وأنا أتذكر اليرموك".

ذكريات الحرب

ولا تبرح ذكريات الحرب جنبات مدينة فيسبادن، فالمهجع الذي يتشارك فيه أحمد مع 5 لاجئين آخرين يسمى المعسكر الأميركي، إذ إنه استقبل القوات الأميركية لفترة طويلة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية. ففي كل يوم، يركب دراجته ويمر بجوار اللوحات النحاسية التي تحمل أسماء اليهود الذين أُجبروا على ترك المكان، وصاروا جزءاً من الممشى الخارجي لمنازلهم التي امتلكوها في الماضي.

كثيراً من الأشخاص المتحمسين لمساعدة أحمد هنا، يرون أن مساعدة اللاجئين جزء من العبء الأخلاقي لألمانيا تكفيراً عن ماضيها النازي. فعندما نشرت الصحيفة المحلية أنه في حاجة إلى بيانو، عرض عليه 30 شخصاً أن يمدوه ببيانو.

ويسير أحمد بجوارنا في أحد الشوارع الكبيرة الممتلئة بالفيلات الفخمة، متجهين إلى أحد المقاهي المصنوعة من الألواح الخشبية ليقابل أصدقاءه، وفي أثناء ذلك تأتي امرأة لتحتضنه حضناً أمومياً. وأحد هؤلاء الأشخاص الذين ساعدوا أحمد هي إلكه جرون، مديرة أحد المراكز الفنية، التي تبنت قضيته، بل ويمكن القول إنها تبنته هو شخصياً.

وكانت جرون مؤخراً تحارب القواعد التي أعاقت أحمد من الحصول على المال مقابل الحفلات التي يعزف خلالها، أو حتى من الحصول على مستحقاته بعد حصوله على جائزة بيتهوفن والتي تبلغ حوالي 11200 دولار. وقد وصل إلى مرحلة، خلال عملية الحصول على حق اللجوء، تمكنه من العمل كعامل بأجرة. لكن جرون تقول إن القوانين الألمانية تبدو أنها لا تحمل تصوراً لحالة فنان أو عازف لاجئ.

لذا فهو يحيا من خلال راتب إعانة اللاجئين الحكومي المفروض له، والذي يبلغ 300 يورو. لكنه لا يزال يعزف لأن ذلك الأمر لا علاقة له بما يفعله وحسب، بل وأيضاً بما قد صار عليه.

وفي هذه الليلة، مع استعداده لخوض حفل آخر، يصر على أنه ليس عازف بيانو عظيماً، لكنه جيد في نشر قصته. وقد دعا لاجئين آخرين ليحضروا الحفل لكي يخفف من وطأة الخوف الذي ينتاب الألمان من أن كل لاجئ يُحتمل أن يكون إرهابياً.

وعن ذلك يوضح قائلاً: "سوف يراهم الناس وهم يجلسون ويستمعون إلى الموسيقى، وهم أشخاص أنقياء يتبعون القوانين الألمانية".

الرحلة إلى الحفلة

ويعد أي حفل نجاحاً بالنسبة له، لكنه لا يستطيع أن ينام بعده، وبعد ذلك بيوم يبدأ مزاجه في التعكر لأنه يتجه في الطريق نحو العزف في حفل آخر.

وفي محطة القطار علم أن الرحلة ستستغرق 5 ساعات، وليس ساعتين فقط مثلما أخبروه. وكثيراً من الرعاة يحجزونه لكثير من الحفلات دون التنسيق أو اعتبار تعرضه للتعب. وعن ذلك يقول إن الألمان لا يمكن أبداً أن يُعرّضوا أنفسهم لجدول أعمال مثل ذلك.

تنصحه جرون قائلة: "قل لهم لا وحسب"، لكنه لا يستطيع لأنه يشعر بأن لديه التزاماً. ومع انطلاق أزيز عجلات القطار أثناء مروره على مشاهد تشبه المشاهد التي تظهر في الكتب، سواء القلاع والأبراج والغابات البعيدة، يتذكر ذلك الطفل المسحور الذي لا يستطيع التوقف عن الرقص.

يصل أحمد مدينة غوترسلوه، وهي مدينة صناعية معروفة بكل أنحاء البلاد، فيرى سيارة تصدم إحدى راكبات الدراجات التي تسقط محدثة جلبة كبيرة.

فيقول: "ستموت، أنا أعرف ذلك الصوت، فانظر إليها وإلى الدماء، من المؤكد أنها سوف تموت".

ولكن ليس ثمة دماء، والممرضون يعتقدون أنها ستكون بخير.

فهل تذكر أحمد في ذلك الحادث اليرموك؟

ثمة طفل ينام في السرير،

جائع ومتعب لكنه لا يزال يحلم.

وجاءت البراميل (المتفجرة).

لم تفرق بين كبير وصغير.

الطفل الآن في الفردوس.

يشعر بالسعادة والشبع.

 

الحرب الأهلية تصل

يتذكر أحمد أن المرة الأولى التي نفذت خلالها طائرة تنتمي إلى النظام غارة جوية ضد اليرموك كانت في 16 ديسمبر/كانون الأول 2012. فالصاروخ أصاب منطقة قريبة من مدرسة تابعة للأمم المتحدة ومسجدا يؤوي المشردين. تناثرت أشلاء الجثث على الأرض، وهرع الناس على عجل حاملين أكياساً معبأة بتلك الأشلاء.

وقد كان الأمر صدمة للفلسطينيين الذين تربوا على أن النظام السوري هو البطل الذي يحميهم. وبالنسبة لأحمد، كان الأمر بمثابة "نكبة ثانية"، بعد النكبة الفلسطينية الأولى عام 1948. فاليرموك كان بمثابة الوطن الثاني له. إلا أن والده الذي وُلد جنوب سوريا بعد أن أُجبر والداه على الخروج من أرضهم في الجليل بفلسطين، يخبره غير ذلك.

فيقول أحمد: "لقد قال لي إن الموسيقى هي وطننا، والآن يمكنني الانتباه إلى أن ذلك الأمر حقيقي".

ونجا والدا أيهم أحمد عن طريق الموسيقى، مثله تماماً.

فقد إبراهيم، والد أيهم، بصره وهو في الثامنة من عمره، وأرسلوه وقتها إلى مدرسة لمتحدي الإعاقة البصرية في دمشق، وكان من المنتظر له أن يعمل في صناعة كراسي الخوص، لكنه كذب وأخبر والده أنه سيحتاج إلى شراء كمان وإلا سيرفدونه من المدرسة.

وقد تعلم عزف المقطوعات العربية الكلاسيكية، كما فتح محلاً لبيع الأدوات الموسيقية في اليرموك. وفيما بعد، تسللت إليه امرأة سورية صغيرة من مدينة دمشق القديمة، وتدعى إيمان، والتي كان أبوها محافظاً ويرفض أن تدرس الموسيقى. فجاءته وطلبت منه أن تتعلم دروس الموسيقى. ونمت العاطفة بينهما، لكن والدها رفض العاشق الذي فقد بصره، وقال لها: "ها تريدين أن تكوني خادمة؟".

لذا تظاهرت إيمان أن آلة الأكورديون خاصتها تحتاج إلى تصليح، فذهبت مع أمها للمحل. عزف إبراهيم وغنت أم إيمان. وبعد سنوات قليلة، جاء أيهم أحمد إلى الدنيا.

وعندما كان صغيراً، كان يشاهد والده وهو يُغطّس ألواحاً خشبية في الماء ويُنعّمها ثم يثنيها لكي يصنع آلة العود. يتذكر حجرة الخزانة الخاصة بوالده، وهي مكان غامض يحتوي على آلات الجيتار والبيانو المكسورة. وقد أدرج أبوه اسمه في إحدى مدارس الموسيقى الراقية عندما كان في السادسة من عمره كي يتعلم قراءة النوّت الموسيقية ويعزف المقطوعات الكلاسيكية الغربية.

وقد عمل أيهم بجد، لكنه لم يستطع الحصول على درجات عالية ولم يكن لديه علاقات تضمن له الحصول على مكان بإحدى الفرق الموسيقية، لذا درس الموسيقى وعمل بمحل والده. لكنه لا يزال مدفوعاً بالطاقة لكي يعزف.

يقول أحمد: "أشعر دائماً أنني لست جيداً بما يكفي. كنت كذلك من قبل، والحرب جعلت الأمر أسوأ، فأنا أعزف كل يوم كي أصلح شيئاً فسد داخلي".

عائلة وحبات عدس وفرقة موسيقية

في أحد الأيام لاحظ أحمد امرأة شابة ترتدي النظارات وتُطيل النظر من النافذة. شعر بالإحراج، وتظاهر بأنه يتحدث إلى الهاتف. في وقتٍ لاحق، جاءت إليه وهي تحمل ساندويتشات الشاورما. وقالت: "هذه لأجلي ولأجلك، سنقوم بتناولها".

كانت تلك خطوة جريئة في حيّهم التقليدي. لكن أحمد أحب ذلك. وشعر بمزيد من الحظ. وبعد أن اشتعلت الحرب، حملت زوجته مرتين خلال حصار مدينتهم، وقدّمت له الدعم عندما أصبح عزف الموسيقى أمراً خطيراً.

ويقول: "أحمدُ الله أنه منحني امرأة قوية مثلها".

ويضيف أنه عندما اندلعت التظاهرات ضد الرئيس بشار الأسد في سوريا عام 2011، قام بمراقبة الوضع باهتمام لكنه لم يشترك فيه. كان متردداً من تبني قضية أو هُوية ما أبعد من مجرد عزف الموسيقى، "إن الموسيقى هي ثورتي الخاصة".

فتحت قوات الأمن النار على المتظاهرين؛ وبدأ التمرد المسلح في الاحتشاد. بقيت اليرموك محايدة في البداية، كما حرصت القيادات الفلسطينية. لكن المعاملة الجيدة نسبياً التي قدمها السوريون للفلسطينيين أعطتهم موطأ قدم في البلاد، ومثل السوريين فقد كانوا منقسمين. وانضم الكثير منهم إلى الثورة.

آوى مخيم اليرموك الجرحى من المتمردين والمدنيين النازحين، الأمر الذي كان كافياً لحث الحكومة على الهجوم عليه. سيطر المتمردون على المخيم، وطوّقته قوات الأمن وأغلقته.

ونادراً ما سمح المسؤولون بإيصال المساعدات المقدمة من الأمم المتحدة. وكانت الناس تُقتل أثناء التقاطها صناديق الغذاء، أو يُقبض عليها، مثلما حدث مع علاء شقيق أحمد. فارتفعت أسعار الغذاء.

هؤلاء الذين كانوا يطيقون تحمل دفع الرشوة من أجل الهرب قاموا بذلك. والذين لم يتمكنوا من ذلك أكلوا العُشب.

لم يحاول أحمد المغادرة؛ فقد طُلب من أجل الخدمة العسكرية. ولكي يُطعم عائلته، أنفق من مدخراتها. ثم تمكن أحد أعمامه من إطلاق سراح نفسه وهرب، تاركاً وراءه مهمة إطعام الطيور، مثل جبل من العدس. فتح أحمد كشكا صغيرا لتقديم الفلافل. ينبغي أن تُصنع الفلافل من الحمص، لكن الناس كانوا جوعى.

في أحد الأيام، سقطت قذيفة بجانب كشكه، وخلّفت 3 قتلى من زبائنه. وأصيبت يده بشظية. بدأ عندها في العزف على البيانو أكثر من ذي قبل، كي يُعيد تأهيل أصابعه. ألهمه هذا الأمر بفكرة؛ فإذا كان العدس ينفذ، فإن الموسيقى لن تنفذ أبداً.

وجد أحمد 7 أصدقاء يتشاركون في النارجيلة (حيثُ كان التبغ شحيحاً). أحب أحدهم، محمود تميم، كتابة الأغاني الساخرة من بشار الأسد؛ سأله أحمد أن يكتب له أغنية عن مخيم اليرموك. ثم أصبحوا الرجال الأوائل لليرموك، شباب اليرموك.

ومن أجل ظهورهم الأول، دفعوا بالبيانو إلى الأنقاض التي خلفتها الضربة الجوية الأولى للمخيم وغنّوا أغنيتهم الجديدة، "اليرموك مشتئلك يا خي". لا تزال الضجة التي أحدثتها تلك الأغنية هي الأكبر في مسيرتهم.

شعر الفريق حينها بالدعم الخالص، لكن مع تزايد شهرتهم بدأ بعض المغنيين في طلب المال مقابل عملهم. بعد ذلك، بدأ النشطاء في بيع الصور الفوتوغرافية لوسائل الإعلام.

حتى أحمد وجد أمامه الفرص.

ويسترجع أحمد بذاكرته قائلاً: "هناك دائماً مشاعر الغرور. لقد استولوا على أموالي، لكن من غير تلك الصور فلن أكون مشهوراً".

صعّب الاهتمام المتزايد باليرموك من صد جنرالات الحرب عنها. فطلب فصيل فلسطيني مؤيد للأسد من أحمد أن يُزيل مقطعاً يتحدث عن "حصار اليرموك بالمدافع"، لأن الحكومة كانت هي المتهم الواضح بهذه الجريمة.

ويشتكي أحمد وقتها في مكالمة فيديو قائلاً: "لو كان النبي محمد هنا، لقالوا عنه إنه كافر إذا لم يتفق معهم، فالأمر يتعلق بأن تسمع وتُطيع. هل بإمكانهم منع الطيور من الغناء؟".

توقف أحمد عن العزف في الأماكن العامة. وخبأ البيانو الإلكتروني الخاص به في شنطة قماشية ثم صعد إلى أسطح المنازل كي يعزف، متخذاً حذره من قناصي الحكومة.

لكنه لا يزال يشعر بعدم الأمان. فبعض من أعضاء فرقته الموسيقية تم اختطافهم، تميم من قِبل قوات الأمن، وآخرين من قِبل مقاتلين إسلاميين. في أحد الأيام فتح رجل ببندقية النار على البيانو الذي يحمله.

حان الوقت للمغادرة

في نهاية المطاف، حصل أحمد على المال. أرسل إليه صحفي ألماني المال الكافي ليخرجه هو وعائلته من مخيم اليرموك.

في منتصف الطريق إلى تركيا أوقفتهم قوات الحماية وأودعتهم الحبس، وحتى الأطفال كذلك. ثم خرجوا بعد أسبوع، لكن الصادم في الأمر أنهم قرروا أن تبقى الزوجة والأطفال في سوريا؛ لأن أقرباءهم مازالوا في خطر، ولن نُفصح بدورنا عن أسمائهم. وأكمل أحمد بمفرده.

تهجير واختطاف وقتل وجوع،

قلبي مُمزق بين عظامي،

ينزف دماً وناراً ونوراً.

عبر البؤس البحار.

ولفترة، كان أحمد مجرد لاجئ. وتلاشى بداخل الجموع الهاربة وقتها، في أغسطس/آب 2015، مع تنامي النزوح الجماعي إلى أوروبا.

وقام بالدفع للمهربين من أجل عبور الجبال والهروب من نقاط التفتيش وحرس الحدود.

غرق قاربه الأول من تركيا، والعديد من الناس غمرتهم المياه. وثق أحمد عبوره الثاني بالفيديو لصالح شبكة BBC. وبعدما أصبح بمأمن في أوروبا، بدأ الكتابة عن مسيرته من خلال فيسبوك.

أما الآن، فهو يسافر بحرية بصفته رجل البيانو الآتي من اليرموك.

وصل إلى ميونيخ في سبتمبر/أيلول، عابراً إلى ألمانيا في ذروة التعاطف الأوروبي. انتشرت صورة موجعة للطفل السوري الغارق، آلان الكردي، كالنار في الهشيم؛ ففُتحت الحدود؛ واستقبل الألمان القطارات بالورود.

انتقل أحمد من مخيم إلى الآخر، لكنه بشكل عملي وجد في كل مكان من يعاونوه، والذين كانوا على علم بحكايته.

في شتوتغارت، دعاه أحد معجبيه من الانترنت إلى بيته. وقاموا بالعزف الثنائي على البيانو والجيتار، لكي يصبح ذلك الأداء الموسيقي الأول له في ألمانيا. ومن ثم تضاعفت دعوات الحفلات الموجهة له.

في نوفمبر/تشرين الثاني، وصل الترحاب الطيب إلى نهاية مُفاجئة بعد هجوم "الدولة الإسلامية" في باريس. رغم أن المعتدين كانوا مواطنين أوروبيين من أصول من دول شمال إفريقيا، إلا أن المخاوف تزايدت من أن الخلايا النائمة تقبع بين القادمين من الشرق الأوسط. وكانت هناك دعوات غاضبة بإرسال اللاجئين مرة أخرى إلى بلادهم.

ينتهز الألمان الليبراليون، الذين يبعثون برسائل طمأنة، وجود أحمد. يقول مازحاً: "وكأنني اللاجئ الوحيد في المنطقة".

قام أحمد بأداء بعض العروض مع مشاهير ألمان مثل المغني الشعبي جوديث هولوفيرنس، كما حصل على جائزة بيتهوفن الدولية لحقوق الإنسان والسلام والاحتواء والحد من الفقر. وبعد الاعتداء الذي نفذه لاجئين على امرأة في مدينة كولونيا في ليلة رأس السنة، حاول التخفيف من حدة التوتر بإقامة حفل موسيقي.

ويقول أحمد إن الصحفيين والجمهور قاموا بتحريف حكايته لكي تتناسب مع المخاوف الأوروبية، مُضخمين من دور المتشددين الإسلاميين ومُقللين من أهمية الحصار الحكومي.

لكنه بالكاد يستطيع الشكوى، مُعوّلاً على جذب الاهتمام لكي يُسرّع من إجراءات استقدام عائلته إلى ألمانيا – وربما أيضاً ممهداً الطريق للآخرين من أجل إحداث التكامل. مُعللاً قوله إنه فشل في تغيير أي شيء في سوريا، لكن ربما يكون لدي الفرصة هنا".

وجهاً لوجه، أخيراً

بحلول وقت زيارتنا، كان أحمد قد اعتاد على تناقضات الحياة في هذه البلدة الألمانية الثرية. خارج المهجع الذي يقيم به، توجد المنازل الفسيحة المكسوة بالزهور الأرجوانية وأشجار رودندرون الوردية، إلى جانب ملصق يعلن عن مكافأة حجمها 50 يورو لمن يجد دمية دب ضائعة.

وهو نادراً ما يكون وحده، لكنه وحيد. فهو يتمشى ويتحدث بالفيديو إلى زوجته وأولاده. ويتردد بين غرفة إقامته والفنادق الفخمة التي يدفع منظمو الحفلات الموسيقية ثمنها عنه. وقد التقى من قبل بالمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل.

تعزف نشرات الأخبار في التلفاز على نغمة الخوف من اللاجئين وتنقل عرضياً الاعتداءات على المهاجرين. لكن أحمد يُصر على أن أحداً من الألمان لم يهدده من قبل.

وعلى ذلك، يستمر أحمد في العزف، محاولاً تغيير العقول الألمانية – ويحارب الصور النمطية.

بعد يوم من حفل فيسبادن، عزف أحمد الموسيقى في أحد فصول مدرسة ثانوية. استمع الطلاب إلى العزف، وأطالوا السمع، ثم بدأوا في طرح الأسئلة المُلحة. 
"إذا كنت لا تزال في سوريا، هل كنت لتقاتل في صف الدولة الإسلامية؟"

"كيف تعلمت البيانو في سوريا؟"

ويجيب بلهفة: أنه ضد العنف بكافة أشكاله؛ وأن السوريين هم الضحية الأبرز للدولة الإسلامية؛ وأن سوريا ما قبل الحرب كانت حافلة بالمشاكل لكنها لم تكن مُعدمة؛ وأن عائلته كانت تمتلك العديد من المنازل وأجهزة البيانو.

يسأل أحدهم: "وكيف كان اندماجك بالمجتمع؟"، فيقول: "ممتاز".

رأيناه مرة واحدة فقط يفقد أعصابه، يطالب مضيف حفل موسيقي ثرياً بـ2 يورو متبقية من تذكرة قطار بقيمة 200 يورو، يستكمل أحمد حديثه "يُحابي الجميع أنفسهم".

في الأسابيع الأخيرة، تحسّنت الأمور بالنسبة لأحمد. فقد حصل على وضعية الإقامة وشقة صغيرة. وتم حل نزاعه البيروقراطي: الآن سيصبح بإمكانه أن يُنشئ شركة، ويوظف لها مديراً ويحصل على المقابل المادي لحفلاته. وأخيراً، منذ أيام، وصلت زوجته وأطفاله.

لا يزال يتساءل وهو على خشبة المسرح: "هل يشعرون بالموسيقى التي أشعر بها؟ أم أنهم فقط يشعرون بالشفقة لكوني لاجئاً؟".

يُخبر أحمد أحد جماهيره في فيسبادن بأن الألمان عادة ما يسألونه إذا سمع من قبل بموتسارت. يوقف الإيقاع، ثم يتحول إلى مزيج ذي سرعة عالية: تتداخل مقطوعة Rondo Alla Turca لموتسارت مع Für Elise لبيتهوفن.

يُبطئ، ثم يُسرع، ويومض بابتسامة، ثم يضرب بيديه بشدة لأعلى ولأسفل البيانو مثل Little Richard أو Liberace. يضحك الجمهور، ويصفقون في نفس اللحظة. إنها مزحة موسيقية، لفتة تتضمن إشارة عنصرية. لكن الجمهور يتفاعل معها.

المصدر: The New York Times - ترجمة هافبوست

الوسوم

رابط مختصر : https://actionpal.org.uk/ar/post/5449

بصرخة فجائية يبدأ عازف البيانو عرضه الموسيقي. ربما تكون كلمات الأغنية عربية ولا يفهمها الجمهور الذي يحضر الحفل في ألمانيا، لكن الأذن يمكنها استيضاح الألم إن قيل بأي لسان.

تحمل أغنياته تساؤلاً يرسله إلى السماء، إذ يسأل كيف للسماء أن ترسل إلينا كل ذلك البلاء؟

يعزف الشاب ويغني أمام جمهور ألماني في مدينة هادئة معروفة بالحكايات الخيالية. لكنه لا يشغل خلده سوى بالمنطقة المنكوبة والفقيرة التي عاش بها في سوريا، حيث بدأ بها قبل أعوام قليلة من مجيئه لاجئاً إلى ألمانيا، مشواراً مهنياً يبدو غريباً، وذلك من خلال العزف فوق الأنقاض، وفقاً لما نشرته صحيفة The New York Times الأميركية.

يتقافز العازف ويتمايل برأسه مع انحناءة طفولية بسيطة، ثم يقول أثناء تقديم نفسه: "أنا آسف، فلست عازف بيانو جيداً. تعلمت العزف في سوريا. وليس العزف هناك مثلما يعزف موتسارت أو باخ، لكنها الطريقة التي نعزف بها".

في ألمانيا التي صارت منقسمة مؤخراً حول استقبال ملايين اللاجئين خلال العام الماضي أو الخوف من ذلك الأمر، يتولى أيهم أحمد بنفسه مسؤولية إضفاء وجه إنساني حقيقي على قضية اللاجئين أمثاله. ويكمن مبتغاه في تسهيل عميلة اندماج اللاجئين بل ومساعدة ملايين آخرين، بمن في ذلك زوجته وأطفاله الذين تركهم خلفه في مخيم اليرموك.

وقد صارت تلك المهمة ضرورية خلال الآونة الأخيرة بعد أن عانت ألمانيا من صدمة جراء هجومين منفصلين ارتكبهما لاجئان مرتبطان بتنظيم الدولة الإسلامية، حاولا قتل مدنيين. وقضى المهاجمان وحدهما في الهجومين، إلا أن تلك الهجمات خلّفت وراءها كثيراً من الألمان في حالة غضب وقلق، بل وعلى استعداد لإغلاق أبواب ألمانيا أمام اللاجئين الجدد. كما تنتشر أحاديث فعلية حول تسريع وتيرة ترحيلهم من ألمانيا.

يغريهم بالموسيقى 

على خشبة المسرح يغري أحمد المستمعين بموسيقاه ويطمئنهم، بل ويأسرهم بها. فهو يحكي عن رحلته من القصف والجوع والاضطهاد، ويغني عن المآذن وأجراس الكنائس من خلال "الدعوة للسلام"، ويعلنها صراحة "الإرهاب لا دين له"، واللاجئون جاءوا من أجل "بناء ألمانيا وليس إيذائها".

ويحمل بكلماته رسالة يقول فيها: "سيذكر التاريخ أن ألمانيا احتوت المسلمين"، ثم يواصل ترديد أغنية طفولية ألمانية شهيرة ليرددها الجمهور خلفه.

وفي نهاية اليوم يغادر أحمد القاعة كالمعتاد بعد أن يمطره وابل من الأحضان وصور السيلفي.

بيد أنه عندما يعود إلى غرفته الصغيرة في مدينة فيسبادن، فإنه يمزق روحه من الداخل على الدور الذي أداه بنجاعة: "اللاجئ الطيب"، الذي يجعل "الألمان الطيبين" يشعرون بشيء جيد حول أنفسهم. ولا يمكنه المساعدة لرؤية لمسة فنية خلال الحفل الغنائي من تصرفه، فيتخيل كيف قد يبدو في أعين الألمان: مجرد عمل خيري، أو حيوان مُدرب يرقص من أجل الحصول على هدية صغيرة.

ويقول أحمد في إحدى الأغاني إنه لاجئ كالجرو، إنهم يلعبون معه وهو يلعب ويشعر بالسعادة.

أشهر لاجئ بألمانيا

وقبل أن تبدأ الأزمة السورية كان أحمد، وهو من أبناء الجيل الثالث من اللاجئين الفلسطينيين وأبوه عازف كمان فقد بصره، مدرس بيانو وبائعاً في محل لبيع الأدوات الموسيقية. أما الآن، فهو يحمل رسالة تشير إلى القدرة على التعايش تماشياً مع رغبة الألمان في أن يحصلوا على رمز للطمأنينة، ما جعله أشهر لاجئ في ألمانيا.

فهو يغني ويلعب، وفي بعض الأوقات يضرب بأصابعه على البيانو في حسرة وغضب.

وفي كل ليلة يكون أحمد محجوزاً لعرض مختلف، فينتقل بكل أنحاء البلاد، بدءاً من الملاعب الرياضية وحتى الحانات المحلية المتواضعة. فقد ظهر في عشرات الصحف الألمانية الراقية، كما حصل على جائزة تحمل اسم أحد معشوقيه، وهي جائزة بيتهوفن. كما تواصلت معه شركة كريستينا أغيليرا لإنتاج الأفلام.

في أحد الأيام التي كان ينتقل خلالها بين الملاعب بأحد القطارات فائقة السرعة، قال الشاب: "أشعر أنني أُخرجت من الحياة الحقيقية".

فقد كبر مستمراً في الاستماع إلى أبيه وهو يغزل قصة حياته ويحولها إلى أسطورة، فيصف الأمر قائلاً: "مثلما تخبر حكايات عن السندباد البحري". ولكن حتى القصة الحقيقية لحياة عازف كمان أعمى تولى تعليم نفسه بنفسه، تتضاءل أمام رحلته الخيالية هارباً مما يجري في بلده على حطام سفينة ليتحول إلى شخصية مشهورة منفية ولا تشعر بالراحة.

ففي كل ليلة على خشبة المسرح، يعيد تصوير الرحلة. وفي كل رحلة يخوضها بين الحفل الغنائي والذي يليه، يعيد تذكر وتمحيص تجربته بلا رحمة، باعتباره يمثل شخصية الفنان المتشكك في موهبته التي اعتاد أن يحيا داخلها دوماً.

يعترف أحمد قائلاً: "أشعر وكأنني ضفدع يتم تشريحه"، ثم ينهار مستريحاً على كرسي في بداية الرحلة التي ستتطلب ركوب 4 قطارات وستستغرق 5 ساعات حتى يصل إلى محطته القادمة التي سيؤدي فيها الحفل، والذي سيشارك فيه كالمعتاد مجاناً بسبب القيود التي توضع أمام عمل اللاجئين.

يقول أحمد: "إنني أبيع نفسي، وحتى الثمن المقابل لا أحصل عليه".

والأسوأ من ذلك، أنه يتساءل إن كان ما يفعله يتسبب في إحداث أي فارق، فيقول: "إنهم يصفقون من أجلي، لكن البقية (في سوريا)، لا يزالون في السجون وتحت الحصار وتحت القصف".

فيوبخه صبيته قائلين: "لم ترسل إلينا طائرة لكي تجلبنا إلى هنا".
وعن ذلك يعبر قائلاً:

يا الله، أوقف العالم الدوران.
لا يمكنني تحمل أكثر من ذلك.
أشعر بدوار في رأسي، وأريد السقوط.

الهدف أن نبقي جميعاً متعقلين

وقد بدأت حياة أيهم أحمد، عازف البيانو اللاجئ، منذ 3 أعوام عندما وضع آلته الموسيقية في شارع ممتلئ بالبنايات المدمرة والحوائط المنهارة والخيم التي تعاني من أحوال سيئة، وبدأ في الغناء وسط كل ذلك.

عاش الشاب في مخيم اليرموك الموجود بضواحي العاصمة السورية دمشق، وقد بدأ ذلك المخيم في إيواء اللاجئين الفلسطينيين منذ خمسينات القرن الماضي. وخلال تلك السنوات، توسع المخيم ليصير منطقة كبيرة تأوي نصف مليون من الفلسطينيين والسوريين.

لكن الحرب الدائرة في سوريا التهمت نيرانها المخيم. فقد طوقته القوات الحكومية، كما دكته تارة بالمدفعية ومرات أخرى من خلال الغارات الجوية. وتتنافس المجموعات المسلحة فيما بينها من أجل السيطرة على المخيم. ليبدأ عدم القدرة على توفير الطعام والدواء بصورة منتظمة في التسبب في مقتل أهل المخيم، وأكثر حالات الوفاة يكون المتسبب فيها الجوع الشديد الذي ينتهي بالموت.

وعندما كان أحمد في سوريا، لم يكن جمهوره سوى من جيرانه الذين حوصروا معه. وحتى هدفه من ذلك كان متواضعاً بدرجة مؤلمة، إذ أنه أراد ألا يفقد الجميع عقولهم.

فيقول في أحد التسجيلات غير المكتملة عبر الإنترنت عندما كان في المخيم إنه أراد أن يعطيهم حلماً جميلاً لكي يلونوا اللون الأسود إلى لون أقل سواداً، ولو كان رمادياً.

وعزف أحمد خلال تلك الفترة مع مجموعة من الشباب الصغار في فرقة صغيرة كانت تسمى "فرقة شباب اليرموك". إذ كانت بعض أغانيه حزينة، فكان ينادي على الذين تركوا المخيم في إحدى الأغنيات قائلاً: "يا شعبي الغالي يا مهجر، بيكفي برة تتمرمر. يلا عودوا يا أحباب، بيكفينا طال الغياب".

كما أن بعض الأغاني حملت طابعاً ساخراً من العرب ومن قادتهم. وفي أحد الأغاني كان طفله الصغير يجلس أعلى البيانو، وبعض الفتيات والنساء الكبار شاركن في الغناء، فضلاً عن أبيه الذي يشارك في العزف من خلال الكمان الذي يمتلكه.

ولم تمر فترة طويلة حتى انتشرت الفيديوهات التي يصورها أحمد على شبكة الإنترنت، ففي البداية انتشرت بين أوساط السوريين ثم اتسع انتشارها، فهي تحمل رسالة مغايرة لصورة الحرب الدامي الذي تسبب في إيذاء كثير من أنحاء العالم.

وقد صار أحمد رمزاً للأمل والتحدي وبدأ أن يحمل مهمة أكبر من خلال نقل صورة توضح أن ثمة بشراً عالقون داخل اليرموك.

ففي أحد الفيديوهات قال أحمد: "كل الأشخاص ضد المدنيين".

وفي نهاية الأمر ساعدته شهرته في الهرب من الحصار لكي يشارك المهاجرين الذين غنى من أجل عودتهم فيما سبق. وقد ساعد ذلك على أن يجعله يبدو ازدواجياً، بل وجعله يحمل ذنب الباقين على قيد الحياة بصورة كبيرة.

كما ساعدني ذلك على مقابلة زميلتي هويدا سعد، بعد سنوات من المراسلات عبر شبكة الإنترنت، وذلك في الميدان الرئيسي لمدينة فيسبادن في ظهيرة أحد الأيام أواخر فصل الربيع الماضي، عندما قابلت أحمد وجهاً لوجه للمرة الأولى.

"أنا أذكر اليرموك"

ومن الواضح أنه بالفعل تغير كثيراً. فهو يركب دراجته بثقة متجهاً نحو المقهى، وخفيفاً مثل العصافير، ومرتدياً قميصاً مخططاً وجينزاً ضيقاً، ويلتهم قطعة الإكلير. كما تعلم بعض المعزوفات الإنكليزية القصيرة. فعندما رن جرس جواله، والذي لا يتوقف عن ذلك لفترة طويلة، انتشى الشاب في نبرة عملية لعازف مشغول للغاية بكل معجبيه.

يخبر المتصل قائلاً: "أنا أتحدث إلى ملايين الناس عبر التلفيون. أنا آسف، ولكن أي من تلك الحفلات هي حفلتك".

وكان أول الأشياء التي أخبرنا بها أنه لا يرغب في إضفاء صفة لطيفة على تجربة المنفى، أو أن يكون الطفل المدلل لأي شخص لكي تنظر أوروبا إلى الأمر بأنه النهاية السعيدة للحكاية.

يقول أحمد: "هم يعتبرونني نجماً، ولكنهم لا يزالون ينظرون إلينا بمرح".

ويوضح أنه يتساءل كيف يكون الشعور أن تعزف في ألمانيا، والآن يرغب في الإجابة بصراحة عن ذلك السؤال، إذ يقول: "أنا لا أشعر بشيء. فأنا أغلق عيني عن كل الأشياء التي تدور حولي، وأعزف وأنا أتذكر اليرموك".

ذكريات الحرب

ولا تبرح ذكريات الحرب جنبات مدينة فيسبادن، فالمهجع الذي يتشارك فيه أحمد مع 5 لاجئين آخرين يسمى المعسكر الأميركي، إذ إنه استقبل القوات الأميركية لفترة طويلة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية. ففي كل يوم، يركب دراجته ويمر بجوار اللوحات النحاسية التي تحمل أسماء اليهود الذين أُجبروا على ترك المكان، وصاروا جزءاً من الممشى الخارجي لمنازلهم التي امتلكوها في الماضي.

كثيراً من الأشخاص المتحمسين لمساعدة أحمد هنا، يرون أن مساعدة اللاجئين جزء من العبء الأخلاقي لألمانيا تكفيراً عن ماضيها النازي. فعندما نشرت الصحيفة المحلية أنه في حاجة إلى بيانو، عرض عليه 30 شخصاً أن يمدوه ببيانو.

ويسير أحمد بجوارنا في أحد الشوارع الكبيرة الممتلئة بالفيلات الفخمة، متجهين إلى أحد المقاهي المصنوعة من الألواح الخشبية ليقابل أصدقاءه، وفي أثناء ذلك تأتي امرأة لتحتضنه حضناً أمومياً. وأحد هؤلاء الأشخاص الذين ساعدوا أحمد هي إلكه جرون، مديرة أحد المراكز الفنية، التي تبنت قضيته، بل ويمكن القول إنها تبنته هو شخصياً.

وكانت جرون مؤخراً تحارب القواعد التي أعاقت أحمد من الحصول على المال مقابل الحفلات التي يعزف خلالها، أو حتى من الحصول على مستحقاته بعد حصوله على جائزة بيتهوفن والتي تبلغ حوالي 11200 دولار. وقد وصل إلى مرحلة، خلال عملية الحصول على حق اللجوء، تمكنه من العمل كعامل بأجرة. لكن جرون تقول إن القوانين الألمانية تبدو أنها لا تحمل تصوراً لحالة فنان أو عازف لاجئ.

لذا فهو يحيا من خلال راتب إعانة اللاجئين الحكومي المفروض له، والذي يبلغ 300 يورو. لكنه لا يزال يعزف لأن ذلك الأمر لا علاقة له بما يفعله وحسب، بل وأيضاً بما قد صار عليه.

وفي هذه الليلة، مع استعداده لخوض حفل آخر، يصر على أنه ليس عازف بيانو عظيماً، لكنه جيد في نشر قصته. وقد دعا لاجئين آخرين ليحضروا الحفل لكي يخفف من وطأة الخوف الذي ينتاب الألمان من أن كل لاجئ يُحتمل أن يكون إرهابياً.

وعن ذلك يوضح قائلاً: "سوف يراهم الناس وهم يجلسون ويستمعون إلى الموسيقى، وهم أشخاص أنقياء يتبعون القوانين الألمانية".

الرحلة إلى الحفلة

ويعد أي حفل نجاحاً بالنسبة له، لكنه لا يستطيع أن ينام بعده، وبعد ذلك بيوم يبدأ مزاجه في التعكر لأنه يتجه في الطريق نحو العزف في حفل آخر.

وفي محطة القطار علم أن الرحلة ستستغرق 5 ساعات، وليس ساعتين فقط مثلما أخبروه. وكثيراً من الرعاة يحجزونه لكثير من الحفلات دون التنسيق أو اعتبار تعرضه للتعب. وعن ذلك يقول إن الألمان لا يمكن أبداً أن يُعرّضوا أنفسهم لجدول أعمال مثل ذلك.

تنصحه جرون قائلة: "قل لهم لا وحسب"، لكنه لا يستطيع لأنه يشعر بأن لديه التزاماً. ومع انطلاق أزيز عجلات القطار أثناء مروره على مشاهد تشبه المشاهد التي تظهر في الكتب، سواء القلاع والأبراج والغابات البعيدة، يتذكر ذلك الطفل المسحور الذي لا يستطيع التوقف عن الرقص.

يصل أحمد مدينة غوترسلوه، وهي مدينة صناعية معروفة بكل أنحاء البلاد، فيرى سيارة تصدم إحدى راكبات الدراجات التي تسقط محدثة جلبة كبيرة.

فيقول: "ستموت، أنا أعرف ذلك الصوت، فانظر إليها وإلى الدماء، من المؤكد أنها سوف تموت".

ولكن ليس ثمة دماء، والممرضون يعتقدون أنها ستكون بخير.

فهل تذكر أحمد في ذلك الحادث اليرموك؟

ثمة طفل ينام في السرير،

جائع ومتعب لكنه لا يزال يحلم.

وجاءت البراميل (المتفجرة).

لم تفرق بين كبير وصغير.

الطفل الآن في الفردوس.

يشعر بالسعادة والشبع.

 

الحرب الأهلية تصل

يتذكر أحمد أن المرة الأولى التي نفذت خلالها طائرة تنتمي إلى النظام غارة جوية ضد اليرموك كانت في 16 ديسمبر/كانون الأول 2012. فالصاروخ أصاب منطقة قريبة من مدرسة تابعة للأمم المتحدة ومسجدا يؤوي المشردين. تناثرت أشلاء الجثث على الأرض، وهرع الناس على عجل حاملين أكياساً معبأة بتلك الأشلاء.

وقد كان الأمر صدمة للفلسطينيين الذين تربوا على أن النظام السوري هو البطل الذي يحميهم. وبالنسبة لأحمد، كان الأمر بمثابة "نكبة ثانية"، بعد النكبة الفلسطينية الأولى عام 1948. فاليرموك كان بمثابة الوطن الثاني له. إلا أن والده الذي وُلد جنوب سوريا بعد أن أُجبر والداه على الخروج من أرضهم في الجليل بفلسطين، يخبره غير ذلك.

فيقول أحمد: "لقد قال لي إن الموسيقى هي وطننا، والآن يمكنني الانتباه إلى أن ذلك الأمر حقيقي".

ونجا والدا أيهم أحمد عن طريق الموسيقى، مثله تماماً.

فقد إبراهيم، والد أيهم، بصره وهو في الثامنة من عمره، وأرسلوه وقتها إلى مدرسة لمتحدي الإعاقة البصرية في دمشق، وكان من المنتظر له أن يعمل في صناعة كراسي الخوص، لكنه كذب وأخبر والده أنه سيحتاج إلى شراء كمان وإلا سيرفدونه من المدرسة.

وقد تعلم عزف المقطوعات العربية الكلاسيكية، كما فتح محلاً لبيع الأدوات الموسيقية في اليرموك. وفيما بعد، تسللت إليه امرأة سورية صغيرة من مدينة دمشق القديمة، وتدعى إيمان، والتي كان أبوها محافظاً ويرفض أن تدرس الموسيقى. فجاءته وطلبت منه أن تتعلم دروس الموسيقى. ونمت العاطفة بينهما، لكن والدها رفض العاشق الذي فقد بصره، وقال لها: "ها تريدين أن تكوني خادمة؟".

لذا تظاهرت إيمان أن آلة الأكورديون خاصتها تحتاج إلى تصليح، فذهبت مع أمها للمحل. عزف إبراهيم وغنت أم إيمان. وبعد سنوات قليلة، جاء أيهم أحمد إلى الدنيا.

وعندما كان صغيراً، كان يشاهد والده وهو يُغطّس ألواحاً خشبية في الماء ويُنعّمها ثم يثنيها لكي يصنع آلة العود. يتذكر حجرة الخزانة الخاصة بوالده، وهي مكان غامض يحتوي على آلات الجيتار والبيانو المكسورة. وقد أدرج أبوه اسمه في إحدى مدارس الموسيقى الراقية عندما كان في السادسة من عمره كي يتعلم قراءة النوّت الموسيقية ويعزف المقطوعات الكلاسيكية الغربية.

وقد عمل أيهم بجد، لكنه لم يستطع الحصول على درجات عالية ولم يكن لديه علاقات تضمن له الحصول على مكان بإحدى الفرق الموسيقية، لذا درس الموسيقى وعمل بمحل والده. لكنه لا يزال مدفوعاً بالطاقة لكي يعزف.

يقول أحمد: "أشعر دائماً أنني لست جيداً بما يكفي. كنت كذلك من قبل، والحرب جعلت الأمر أسوأ، فأنا أعزف كل يوم كي أصلح شيئاً فسد داخلي".

عائلة وحبات عدس وفرقة موسيقية

في أحد الأيام لاحظ أحمد امرأة شابة ترتدي النظارات وتُطيل النظر من النافذة. شعر بالإحراج، وتظاهر بأنه يتحدث إلى الهاتف. في وقتٍ لاحق، جاءت إليه وهي تحمل ساندويتشات الشاورما. وقالت: "هذه لأجلي ولأجلك، سنقوم بتناولها".

كانت تلك خطوة جريئة في حيّهم التقليدي. لكن أحمد أحب ذلك. وشعر بمزيد من الحظ. وبعد أن اشتعلت الحرب، حملت زوجته مرتين خلال حصار مدينتهم، وقدّمت له الدعم عندما أصبح عزف الموسيقى أمراً خطيراً.

ويقول: "أحمدُ الله أنه منحني امرأة قوية مثلها".

ويضيف أنه عندما اندلعت التظاهرات ضد الرئيس بشار الأسد في سوريا عام 2011، قام بمراقبة الوضع باهتمام لكنه لم يشترك فيه. كان متردداً من تبني قضية أو هُوية ما أبعد من مجرد عزف الموسيقى، "إن الموسيقى هي ثورتي الخاصة".

فتحت قوات الأمن النار على المتظاهرين؛ وبدأ التمرد المسلح في الاحتشاد. بقيت اليرموك محايدة في البداية، كما حرصت القيادات الفلسطينية. لكن المعاملة الجيدة نسبياً التي قدمها السوريون للفلسطينيين أعطتهم موطأ قدم في البلاد، ومثل السوريين فقد كانوا منقسمين. وانضم الكثير منهم إلى الثورة.

آوى مخيم اليرموك الجرحى من المتمردين والمدنيين النازحين، الأمر الذي كان كافياً لحث الحكومة على الهجوم عليه. سيطر المتمردون على المخيم، وطوّقته قوات الأمن وأغلقته.

ونادراً ما سمح المسؤولون بإيصال المساعدات المقدمة من الأمم المتحدة. وكانت الناس تُقتل أثناء التقاطها صناديق الغذاء، أو يُقبض عليها، مثلما حدث مع علاء شقيق أحمد. فارتفعت أسعار الغذاء.

هؤلاء الذين كانوا يطيقون تحمل دفع الرشوة من أجل الهرب قاموا بذلك. والذين لم يتمكنوا من ذلك أكلوا العُشب.

لم يحاول أحمد المغادرة؛ فقد طُلب من أجل الخدمة العسكرية. ولكي يُطعم عائلته، أنفق من مدخراتها. ثم تمكن أحد أعمامه من إطلاق سراح نفسه وهرب، تاركاً وراءه مهمة إطعام الطيور، مثل جبل من العدس. فتح أحمد كشكا صغيرا لتقديم الفلافل. ينبغي أن تُصنع الفلافل من الحمص، لكن الناس كانوا جوعى.

في أحد الأيام، سقطت قذيفة بجانب كشكه، وخلّفت 3 قتلى من زبائنه. وأصيبت يده بشظية. بدأ عندها في العزف على البيانو أكثر من ذي قبل، كي يُعيد تأهيل أصابعه. ألهمه هذا الأمر بفكرة؛ فإذا كان العدس ينفذ، فإن الموسيقى لن تنفذ أبداً.

وجد أحمد 7 أصدقاء يتشاركون في النارجيلة (حيثُ كان التبغ شحيحاً). أحب أحدهم، محمود تميم، كتابة الأغاني الساخرة من بشار الأسد؛ سأله أحمد أن يكتب له أغنية عن مخيم اليرموك. ثم أصبحوا الرجال الأوائل لليرموك، شباب اليرموك.

ومن أجل ظهورهم الأول، دفعوا بالبيانو إلى الأنقاض التي خلفتها الضربة الجوية الأولى للمخيم وغنّوا أغنيتهم الجديدة، "اليرموك مشتئلك يا خي". لا تزال الضجة التي أحدثتها تلك الأغنية هي الأكبر في مسيرتهم.

شعر الفريق حينها بالدعم الخالص، لكن مع تزايد شهرتهم بدأ بعض المغنيين في طلب المال مقابل عملهم. بعد ذلك، بدأ النشطاء في بيع الصور الفوتوغرافية لوسائل الإعلام.

حتى أحمد وجد أمامه الفرص.

ويسترجع أحمد بذاكرته قائلاً: "هناك دائماً مشاعر الغرور. لقد استولوا على أموالي، لكن من غير تلك الصور فلن أكون مشهوراً".

صعّب الاهتمام المتزايد باليرموك من صد جنرالات الحرب عنها. فطلب فصيل فلسطيني مؤيد للأسد من أحمد أن يُزيل مقطعاً يتحدث عن "حصار اليرموك بالمدافع"، لأن الحكومة كانت هي المتهم الواضح بهذه الجريمة.

ويشتكي أحمد وقتها في مكالمة فيديو قائلاً: "لو كان النبي محمد هنا، لقالوا عنه إنه كافر إذا لم يتفق معهم، فالأمر يتعلق بأن تسمع وتُطيع. هل بإمكانهم منع الطيور من الغناء؟".

توقف أحمد عن العزف في الأماكن العامة. وخبأ البيانو الإلكتروني الخاص به في شنطة قماشية ثم صعد إلى أسطح المنازل كي يعزف، متخذاً حذره من قناصي الحكومة.

لكنه لا يزال يشعر بعدم الأمان. فبعض من أعضاء فرقته الموسيقية تم اختطافهم، تميم من قِبل قوات الأمن، وآخرين من قِبل مقاتلين إسلاميين. في أحد الأيام فتح رجل ببندقية النار على البيانو الذي يحمله.

حان الوقت للمغادرة

في نهاية المطاف، حصل أحمد على المال. أرسل إليه صحفي ألماني المال الكافي ليخرجه هو وعائلته من مخيم اليرموك.

في منتصف الطريق إلى تركيا أوقفتهم قوات الحماية وأودعتهم الحبس، وحتى الأطفال كذلك. ثم خرجوا بعد أسبوع، لكن الصادم في الأمر أنهم قرروا أن تبقى الزوجة والأطفال في سوريا؛ لأن أقرباءهم مازالوا في خطر، ولن نُفصح بدورنا عن أسمائهم. وأكمل أحمد بمفرده.

تهجير واختطاف وقتل وجوع،

قلبي مُمزق بين عظامي،

ينزف دماً وناراً ونوراً.

عبر البؤس البحار.

ولفترة، كان أحمد مجرد لاجئ. وتلاشى بداخل الجموع الهاربة وقتها، في أغسطس/آب 2015، مع تنامي النزوح الجماعي إلى أوروبا.

وقام بالدفع للمهربين من أجل عبور الجبال والهروب من نقاط التفتيش وحرس الحدود.

غرق قاربه الأول من تركيا، والعديد من الناس غمرتهم المياه. وثق أحمد عبوره الثاني بالفيديو لصالح شبكة BBC. وبعدما أصبح بمأمن في أوروبا، بدأ الكتابة عن مسيرته من خلال فيسبوك.

أما الآن، فهو يسافر بحرية بصفته رجل البيانو الآتي من اليرموك.

وصل إلى ميونيخ في سبتمبر/أيلول، عابراً إلى ألمانيا في ذروة التعاطف الأوروبي. انتشرت صورة موجعة للطفل السوري الغارق، آلان الكردي، كالنار في الهشيم؛ ففُتحت الحدود؛ واستقبل الألمان القطارات بالورود.

انتقل أحمد من مخيم إلى الآخر، لكنه بشكل عملي وجد في كل مكان من يعاونوه، والذين كانوا على علم بحكايته.

في شتوتغارت، دعاه أحد معجبيه من الانترنت إلى بيته. وقاموا بالعزف الثنائي على البيانو والجيتار، لكي يصبح ذلك الأداء الموسيقي الأول له في ألمانيا. ومن ثم تضاعفت دعوات الحفلات الموجهة له.

في نوفمبر/تشرين الثاني، وصل الترحاب الطيب إلى نهاية مُفاجئة بعد هجوم "الدولة الإسلامية" في باريس. رغم أن المعتدين كانوا مواطنين أوروبيين من أصول من دول شمال إفريقيا، إلا أن المخاوف تزايدت من أن الخلايا النائمة تقبع بين القادمين من الشرق الأوسط. وكانت هناك دعوات غاضبة بإرسال اللاجئين مرة أخرى إلى بلادهم.

ينتهز الألمان الليبراليون، الذين يبعثون برسائل طمأنة، وجود أحمد. يقول مازحاً: "وكأنني اللاجئ الوحيد في المنطقة".

قام أحمد بأداء بعض العروض مع مشاهير ألمان مثل المغني الشعبي جوديث هولوفيرنس، كما حصل على جائزة بيتهوفن الدولية لحقوق الإنسان والسلام والاحتواء والحد من الفقر. وبعد الاعتداء الذي نفذه لاجئين على امرأة في مدينة كولونيا في ليلة رأس السنة، حاول التخفيف من حدة التوتر بإقامة حفل موسيقي.

ويقول أحمد إن الصحفيين والجمهور قاموا بتحريف حكايته لكي تتناسب مع المخاوف الأوروبية، مُضخمين من دور المتشددين الإسلاميين ومُقللين من أهمية الحصار الحكومي.

لكنه بالكاد يستطيع الشكوى، مُعوّلاً على جذب الاهتمام لكي يُسرّع من إجراءات استقدام عائلته إلى ألمانيا – وربما أيضاً ممهداً الطريق للآخرين من أجل إحداث التكامل. مُعللاً قوله إنه فشل في تغيير أي شيء في سوريا، لكن ربما يكون لدي الفرصة هنا".

وجهاً لوجه، أخيراً

بحلول وقت زيارتنا، كان أحمد قد اعتاد على تناقضات الحياة في هذه البلدة الألمانية الثرية. خارج المهجع الذي يقيم به، توجد المنازل الفسيحة المكسوة بالزهور الأرجوانية وأشجار رودندرون الوردية، إلى جانب ملصق يعلن عن مكافأة حجمها 50 يورو لمن يجد دمية دب ضائعة.

وهو نادراً ما يكون وحده، لكنه وحيد. فهو يتمشى ويتحدث بالفيديو إلى زوجته وأولاده. ويتردد بين غرفة إقامته والفنادق الفخمة التي يدفع منظمو الحفلات الموسيقية ثمنها عنه. وقد التقى من قبل بالمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل.

تعزف نشرات الأخبار في التلفاز على نغمة الخوف من اللاجئين وتنقل عرضياً الاعتداءات على المهاجرين. لكن أحمد يُصر على أن أحداً من الألمان لم يهدده من قبل.

وعلى ذلك، يستمر أحمد في العزف، محاولاً تغيير العقول الألمانية – ويحارب الصور النمطية.

بعد يوم من حفل فيسبادن، عزف أحمد الموسيقى في أحد فصول مدرسة ثانوية. استمع الطلاب إلى العزف، وأطالوا السمع، ثم بدأوا في طرح الأسئلة المُلحة. 
"إذا كنت لا تزال في سوريا، هل كنت لتقاتل في صف الدولة الإسلامية؟"

"كيف تعلمت البيانو في سوريا؟"

ويجيب بلهفة: أنه ضد العنف بكافة أشكاله؛ وأن السوريين هم الضحية الأبرز للدولة الإسلامية؛ وأن سوريا ما قبل الحرب كانت حافلة بالمشاكل لكنها لم تكن مُعدمة؛ وأن عائلته كانت تمتلك العديد من المنازل وأجهزة البيانو.

يسأل أحدهم: "وكيف كان اندماجك بالمجتمع؟"، فيقول: "ممتاز".

رأيناه مرة واحدة فقط يفقد أعصابه، يطالب مضيف حفل موسيقي ثرياً بـ2 يورو متبقية من تذكرة قطار بقيمة 200 يورو، يستكمل أحمد حديثه "يُحابي الجميع أنفسهم".

في الأسابيع الأخيرة، تحسّنت الأمور بالنسبة لأحمد. فقد حصل على وضعية الإقامة وشقة صغيرة. وتم حل نزاعه البيروقراطي: الآن سيصبح بإمكانه أن يُنشئ شركة، ويوظف لها مديراً ويحصل على المقابل المادي لحفلاته. وأخيراً، منذ أيام، وصلت زوجته وأطفاله.

لا يزال يتساءل وهو على خشبة المسرح: "هل يشعرون بالموسيقى التي أشعر بها؟ أم أنهم فقط يشعرون بالشفقة لكوني لاجئاً؟".

يُخبر أحمد أحد جماهيره في فيسبادن بأن الألمان عادة ما يسألونه إذا سمع من قبل بموتسارت. يوقف الإيقاع، ثم يتحول إلى مزيج ذي سرعة عالية: تتداخل مقطوعة Rondo Alla Turca لموتسارت مع Für Elise لبيتهوفن.

يُبطئ، ثم يُسرع، ويومض بابتسامة، ثم يضرب بيديه بشدة لأعلى ولأسفل البيانو مثل Little Richard أو Liberace. يضحك الجمهور، ويصفقون في نفس اللحظة. إنها مزحة موسيقية، لفتة تتضمن إشارة عنصرية. لكن الجمهور يتفاعل معها.

المصدر: The New York Times - ترجمة هافبوست

الوسوم

رابط مختصر : https://actionpal.org.uk/ar/post/5449