map
RSS instagram youtube twitter facebook Google Paly App stores

عدد الضحايا

حتى اليوم

4256

أنا من الهواء يا أبتي

تاريخ النشر : 04-10-2016
أنا من الهواء يا أبتي

سعدي أبو شعيرة

"بابا.. مين اشترى بيتنا اللي في لبنان؟" بهذه الكلمات قرر عمر ذو الأربعة أعوام، فتح دردشة معي، بعد أقل من شهر على مغادرتنا بيروت. لم أكن أدرك قبلها، أن مفهوم الاستئجار قد لا يكون موجودا في قواميس براءة الأطفال. بصراحة حاولت قليلا أن أبسط له الفكرة، أن البيت لم يكن لنا، وأننا كنا نقيم فيه مؤقتا، وأننا أصلا كنا ضيوفا في لبنان.

طبعا، لم يكن عمر يفهم كل ما أقوله، وأنا قررت ألا أثقل عليه بأفكار لم أتقن أنا فهمها كاملة حتى اليوم. ولكن، ما جرى أن أخاه قرر فجأة الدخول على خط الحوار،  وهو الذي عاش أعوامه الثلاثة الأولى، في بيت بسيط في مخيم اليرموك للاجئين بدمشق، بيت كنا نمتلكه فعلا، ولكن الحرب سلبتنا إياه، ولم تتح لنا الفرصة أن نعرف من اشتراه لاحقا، ربما اشتراه صاروخ، أو تاجر حرب، لا أدري، ولم يعد يفيد أن أدري. غيث ابن الأعوام السبعة، قرر أن يتباهى أمام أخيه أنه يعرف بيتنا، وأنه عاش في سوريا، ولم يكن يدرك هو الآخر، أننا أيضا كنا عابري سبيل في سوريا.

لم يتأثر عمر بالأمر، حتى أنه تلقف قصة ولادته بطريقة عادية جدا، ولم يتأثر أيضا لما قلنا له أن والدته جاءها المخاض في إحدى ليالي الجمعة من العام 2012.. العام الذي كانت لاتزال فيه الحرب ناعمة في سوريا، فقد كان يستشهد يوميا عشرون أو ثلاثون فقط.. لم يتأثر عندما قلنا له، أنه لم يكن في المستوصف إلا هو ووالدته وعاملة التنظيف وممرضة، وأنه بقي فيه نحو أربع ساعات فقط، قبل أن تجبر والدته على المغادرة، تمهيدا لاستقبال جرحى القنص والقصف.. ولم يتأثر أن ولادته تزامنت مع تكسير باب بيتنا وسرقته.. لم يتأثر لما سردنا له بقية الحكاية، وكيف أنه كان رغم كل شيء محظوظا جدا، أنه نجا وعاش في حين أن آلاف الأطفال غيره في سوريا، خطفتهم سريعا، قذيفة، أو موجة بحر، أو رصاصة غدر، لتحيلهم عصفور جنة -كما نواسي أنفسنا-.

ومع أن عمر لم يتأثر، فقد أنصت وأصغى، ولكنه لم يسأل كعادته، لوهلة ظننت مجددا أنه لم يفهم أي شيء مما قلناه، وتوقف الحوار، قبل أن أنقله مجددا إلى موضع جديد. قلت لنفسي، جرب معه اختبار "حق العودة"، (باعتبار أننا حتى ساعة كتابة هذه المدونة لانزال في عداد اللاجئين الفلسطينيين"..  نظرت إليه وسألت: "ياعمر.. أنت من أي بلد؟ نحنا من وين؟" أكمل عمر صمته، كما لو أنه يترفع عن مناقشة هذه القضية، وكما لو أنه يعي ما جرى منذ خروج جده وجدته من قريتهم حمامة عام 1948، كما لو أنه يعي أن له جدين آخرين ولدا -مثله- تماما، خارج نطاق التغطية، في محطة أجوء اسمها سوريا.

أزعجني صمته، فكررت السؤال، ويبدو أن تكرار السؤال أشعره أنني أنا الذي لم أفهم أي شيء بعد مما يدور حولي، نظر إلي وقال بلهجة فلسطينية مخارج حروفها غير مكتملة بعد.. بلهجة لم أعهده يستخدمها: "أنا مش من مكان.. أنا من الهوا.. أنا من الهوا".

المصدر: مدونة الجزيرة

الوسوم

رابط مختصر : https://actionpal.org.uk/ar/post/5852

سعدي أبو شعيرة

"بابا.. مين اشترى بيتنا اللي في لبنان؟" بهذه الكلمات قرر عمر ذو الأربعة أعوام، فتح دردشة معي، بعد أقل من شهر على مغادرتنا بيروت. لم أكن أدرك قبلها، أن مفهوم الاستئجار قد لا يكون موجودا في قواميس براءة الأطفال. بصراحة حاولت قليلا أن أبسط له الفكرة، أن البيت لم يكن لنا، وأننا كنا نقيم فيه مؤقتا، وأننا أصلا كنا ضيوفا في لبنان.

طبعا، لم يكن عمر يفهم كل ما أقوله، وأنا قررت ألا أثقل عليه بأفكار لم أتقن أنا فهمها كاملة حتى اليوم. ولكن، ما جرى أن أخاه قرر فجأة الدخول على خط الحوار،  وهو الذي عاش أعوامه الثلاثة الأولى، في بيت بسيط في مخيم اليرموك للاجئين بدمشق، بيت كنا نمتلكه فعلا، ولكن الحرب سلبتنا إياه، ولم تتح لنا الفرصة أن نعرف من اشتراه لاحقا، ربما اشتراه صاروخ، أو تاجر حرب، لا أدري، ولم يعد يفيد أن أدري. غيث ابن الأعوام السبعة، قرر أن يتباهى أمام أخيه أنه يعرف بيتنا، وأنه عاش في سوريا، ولم يكن يدرك هو الآخر، أننا أيضا كنا عابري سبيل في سوريا.

لم يتأثر عمر بالأمر، حتى أنه تلقف قصة ولادته بطريقة عادية جدا، ولم يتأثر أيضا لما قلنا له أن والدته جاءها المخاض في إحدى ليالي الجمعة من العام 2012.. العام الذي كانت لاتزال فيه الحرب ناعمة في سوريا، فقد كان يستشهد يوميا عشرون أو ثلاثون فقط.. لم يتأثر عندما قلنا له، أنه لم يكن في المستوصف إلا هو ووالدته وعاملة التنظيف وممرضة، وأنه بقي فيه نحو أربع ساعات فقط، قبل أن تجبر والدته على المغادرة، تمهيدا لاستقبال جرحى القنص والقصف.. ولم يتأثر أن ولادته تزامنت مع تكسير باب بيتنا وسرقته.. لم يتأثر لما سردنا له بقية الحكاية، وكيف أنه كان رغم كل شيء محظوظا جدا، أنه نجا وعاش في حين أن آلاف الأطفال غيره في سوريا، خطفتهم سريعا، قذيفة، أو موجة بحر، أو رصاصة غدر، لتحيلهم عصفور جنة -كما نواسي أنفسنا-.

ومع أن عمر لم يتأثر، فقد أنصت وأصغى، ولكنه لم يسأل كعادته، لوهلة ظننت مجددا أنه لم يفهم أي شيء مما قلناه، وتوقف الحوار، قبل أن أنقله مجددا إلى موضع جديد. قلت لنفسي، جرب معه اختبار "حق العودة"، (باعتبار أننا حتى ساعة كتابة هذه المدونة لانزال في عداد اللاجئين الفلسطينيين"..  نظرت إليه وسألت: "ياعمر.. أنت من أي بلد؟ نحنا من وين؟" أكمل عمر صمته، كما لو أنه يترفع عن مناقشة هذه القضية، وكما لو أنه يعي ما جرى منذ خروج جده وجدته من قريتهم حمامة عام 1948، كما لو أنه يعي أن له جدين آخرين ولدا -مثله- تماما، خارج نطاق التغطية، في محطة أجوء اسمها سوريا.

أزعجني صمته، فكررت السؤال، ويبدو أن تكرار السؤال أشعره أنني أنا الذي لم أفهم أي شيء بعد مما يدور حولي، نظر إلي وقال بلهجة فلسطينية مخارج حروفها غير مكتملة بعد.. بلهجة لم أعهده يستخدمها: "أنا مش من مكان.. أنا من الهوا.. أنا من الهوا".

المصدر: مدونة الجزيرة

الوسوم

رابط مختصر : https://actionpal.org.uk/ar/post/5852