map
RSS instagram youtube twitter facebook Google Paly App stores

عدد الضحايا

حتى اليوم

4256

هذه حكايتي (9) | "علا درباس" لاجئة شابة عايشت مآسي الحرب

تاريخ النشر : 11-09-2017
هذه حكايتي (9) | "علا درباس" لاجئة شابة عايشت مآسي الحرب

مجموعة العمل – علاء البرغوثي | السويد

مجموعة العمل من أجل فلسطينيي سورية وضمن سعيها لتوثيق معاناة اللاجئين الفلسطينيين السوريين تحدثت للشابة "علا درباس" ابنة مدينة حيفا في فلسطين المحتلة والمولدة في مخيم اليرموك للاجئين الفلسطينيين بدمشق، والمقيمة حالياً في مدينة كالمر بمملكة السويد، حيث تم توثيق حكايتها ضمن مبادرتها التي حملت عنوان "هذه حكايتي" التي توثق قصص اللاجئين الفلسطينيين خلال الحرب السورية.

"نحن نجهل الواقع الأليم الذي ينتّظرنا في المستقبل، فلو أنّنا علمناه ما كان الألم بانتّظارنا أساسا لا حاضرا ولا مستقبلا، لو أنّني علّمته لكنت ما سرّت إليه منذ البداية، ولكنت ما أسّست وطنا داخل وطنين ضمّاني في رحابهما عشقا، ولكنت ما تركت دمشق وياسمينها المنثور على أرضها جمالا، ولكنت ما تركت حيفا وجمال غصّنها الأخضر، ولو أنّني أعلّم واقع المستقبل لما أسّست وطنا داخل وطنين".

"لماذا تلاشينا إلى حد أصبحنا فيه ذرات تتطاير لنْ أقول طيور أو ما شابه، فنحن ذارت من وطن وكل ذرة وقت من وطن أصغر..."

"نعم أعني من بيوت كانت أوطان حتى تفجرت وتطايرنا منها إما إلى السماء وإما إلى دول بالكاد مدّت لنا طرفا من يدها لتختّبئ تحت شعار النخوة العربية التي ما هي إلا حروف على الورقة المنّسية، تحت هذا المسمى قد شردنا في مخيمات وحدائق ومستودعات، وفي هذه الأماكن غفت وجوه متعبة على أرصفة النخوة في الشوارع العربية..."

بهذه الكلمات بدأت الشابة "علا درباس" حدثيها معنا، "علا" التي ولدت وعاشت في مخيم اليرموك للاجئين الفلسطينيين بدمشق، تروي لنا حكايتها مع الحرب في سورية حكاية ألم وأمل، حزن وفرحة غير مكتملة بسبب الخسائر التي لا تعوض في كثير من الأحيان.

تقول علا: حكايتي هي أني فتاة أنّتمي إلى وطنّين، وطن الزيتون الذي لم أره، ووطن العشق الذي قضيت فيه خمسة عشر عاما إلا سبعة في المنفى أسمى مراحل الجمال برفقة الياسمين، السبعة أعوام التي قضيتها وأقضيها الآن في المنفى هي غيمة سوداء تملئ الأفق ولا أرى لها نهاية.

رواية أبي التي مهما مر الزمن عليها ستبقى القضية الأولى لجميع أحفاده، أبي هو ذلك الرجل الذي شهد النكبة الفلسطينية عام 1948 وخرج من أرضّه شابا واعيا عندما حلت هذه الّلعنة بوطنه، الحرب التي أكلتْ وطن الزيتون، الوطن الذي لم تعد أرضّه تعرف السلام حتى يومنا هذا، هو وطن الجمال والغصّن الأخضر.

كنا نقّطن داخل حضن بديلا عن فلسطين، حضن دافئ يملّئه التواضع والحب يسمى (مخيم اليرموك).

المخيم لم يكن حيا صغير مجردا من التعريف، ولكن على العكس تماما هذا المكان لم يأخذ حقه عندما كنت بالمخيم، لأنّه كان وطنا كاملا نجحت وتعثرت داخله، وطن لم أعلم يوما بحبي المدفون له، لأنّه جزء من فلسطين أدخلته معجزة كونية لداخل سوريا، أو أن سوريا وفلسطين شقيقتان تبرّعم منهما مخيم اليرموك.

توفي أبي لكنه ترك لي إرثا وهو مفتاح قضية وخارطة وحب الوطن

بالرغم من الآلام التي عاشتها علا والتي سوف سنسرد تفاصيلها فيما بعد، تبدو الشابة الفلسطينية اللاجئة في سورية أكثر تمسكا بأرضها وأرض أجداها "فلسطين" فلم تقتل الحرب كما لا يقتل البعد والهجرة حب فلسطين وإيمان الشابة بحقها في أرضا أجدادها، فنرى في حديثها قصة كل لاجئ فلسطيني عشق فلسطين من أحاديث الأجداد والآباء، فتروي لنا "علا" تفاصيل حديثها هي ووالدها عن وطنها الذي لم تراه إلا من خلال والدها:

كان أبي يروي لي عن حيفا وجمال حيفا وهوائّها وكأنّها أشبّه بمدينة خيالية لم تنّزل على هذه الأرض.

حتى أنّه ذات مساء دار حوار بيني وبين والدي عندما سألّته:

هل سنعود يوما؟

نظر إليّ قائلا أنا لن أعود فلقد بلغت السبعين من العمر ولم يعد هناك متسع من الوقت للعودة، ولكن هل ستعديننّي أنك ستعودين يوما ما؟

أتعدينّني بزرع شجرة زيتون هناك، وتحققي مالم أستّطع أنّ أحققه؟

في وقتها الّتزمت الصمت فقط لكني عاهدت نفسي أن أفيّ بذلك الوعد.

قال أبي يا ابنتي أقدّر اندهاشّك لحبي وحرصي بأن ازرع بقلبك هذا الحب ذاته، لأن من يولد في حيفا لا يموت حزنا على شيء في هذه الدنيا بقدر ما يموت حزنا وآلما على جنة الله في أرضه.

كبرت وكبر إيماني ببلد لم أرها بعد إلا بأعين أبي وذلك من شدة بريق تلك العينان العسليتان اللتين أتخذ منهما لمعان قبة الأقصى لقد كان صدق المشاعر بتلك العينان كفيلة بأنّ أمجّد قضيتي وأفتّخر بها، ذلك ما زرعه رجل صلّب في داخلي.

كان على يقين أنّ ابنته ستسجد بأرض حرمت عليه، حتى توفي أبي ولم يعد هناك أحد يحدّثني عن فلسطين، ولم أعد أرى حيفا لأن عيناه أغلّقت للأبد، لكنه ترك لي إرثا وهو مفتاح قضية وخارطة وقلب  كل مؤمن بحب الوطن ولا تعيبني كلمة لاجئة.

"2012" وارهاصات التغريبة الفلسطينية الثانية

مضت الأيام وأقبلت سنة جديدة وانتهت لكنها لم تنتهي بسلام، كانت هذه السنة هيّ بداية السنوات السبع من عمري، وبداية حرب لعينة بدأتْ كسرطان في طرف جسد قوي، امتدتْ في جميع أنحاء الوطن حتى وصلت إلى المخيم للمرة الأولى، الكلام لعلا، التي حمدت الله أن والدها لم يعش ليشاهد أهوال ما حل بمخيم اليرموك وأهله، وتقول علا:

أحمد الله على وفاتك يا أبي، كي لا تشهد النكبة الثانية في اليرموك، كي لا ترى مشهد التغريبة الثانية في اليرموك، ويعتصر قلّبك كما يسيّطر الألم على قلبي الآن.

الآن حرب في كل مكان دويّ طيران يملئ المكان رعبا، يطرق الأبواب ثم صمت مفاجئ وضربة طائرة هزّت أرجاء المكان، ومن ثم أرواح تتعالى نحو السماء، هذه كانت فقط البداية، البداية فقط.

وعن الأوضاع في مخيم اليرموك وما شهده المخيم من أعمال عسكرية شملت القصف بالطائرات والقذائف، تحدثنا علا:

حل اليوم الثاني باردا قاسيا ودوي القذائف في كل مكان وأجزاء القذائف من شظايا وغيرها انتثرت على جدران ممتلئة بصور خرائط فلسطين وحنظلة ورسومات القدّس، فبقّدر ما تشوهت الحيطان تشوهت وتهشمت قلوبنا.

بعد ساعات حركة نزوح جماعية إلى خارج المخيم، وهنا قد بدأت التغريبة الفلسطينية مكونة بالجزء الثاني منها، وقفت أصرخ وقتها وأردد لا تخرجوا أرجوكم ابقوا كي أبقى وكي يبقى لنا الوطن أرجوكم....

لكن الجميع قد خلى خوفا على أرواح أشبه بالأرواح، ولم يبقى إلا من عاهد على الصمود والبقاء حتى أغلّق المخيم وبدأ الحصار هنا.

خرجت أنا وجميع أفراد عائلتي عدا أخي الذي بقيّ هناك يحمل أملا أن هذه الشّدة هي أيام معدودة فقط.

وبالنسبة لي أصبحت فتاة لا تحمل أملا في قلبها وكأن شيئا أسودا طوق هذا القلب، ولم يعد لي سبيل سوى أنّ أكون كباقي الناس، وأنّ أودع ياسمين الشام وأزقتها مرغمة.

مرغمة على السفر مودعة أمي

حالها كحال السواد الأعظم ممن أجبرتهم الحرب على مغادرة دمشق، تصف علا يوم خروجها منها مودعة أمها وذكريات طفولتها، خائفة من عدم القدرة على تجدد اللقاء والعودة من جديد، فتصف علا ذلك المشهد الذي يحمل في طياته الكثير من الألم والقلق والخوف على الأهل.

في يوم سفري ودعت أمي وودعت شامي ومخيّمي، إنّ وداع أم واحدة مؤلم جدا لا يحتّمل قسوتّه أيّ قلب، لكن لا أعلّم ما هي تلك القوة التي أجبرتني أنّ أودع ثلاث أمهات في ساعة واحدة.

أمي هي قوتي وأملي ودعائي ضممّتها للمرة الأولى بقوة ألف حجر، ربما هو العلّم بما سيأتي من آلم فقدان في المستقبل وربما علمت أنها آخر نظرة وضمة ستكون بيننا وربما سأفقدها،

ربما ذلك .....

غادرت مطار دمشق في هذا اليوم، لا أحمل قلبا بل أحمل مولودا فقط هو طفلي إلى مصر.

أنا وطفلي ورحلة الموت

في مصر بدأت رحلة "علا" نحو أوروبا، فقد كانت مجرد محطة للانطلاق بحثا عن الأمان والكرامة لها ولابنها، ربما لو وجدت علا وغيرها الآلاف من اللاجئين الفلسطينيين السوريين بلدا عربيا واحدا يجيرهم من الحرب واللجوء لما خاطرت بروحها وروح طفلها بركوب قوارب الموت والمجازفة بحياتهما للوصول إلى بر الأمان.

"من مصر بدأتْ لحظات الخوف والرعب ووسائل التهريب وتذاكر الموت وتجار البشر، لا أعلّم إنّ كانوا بشرا أم لا، كنت أراهم رجال لعنة الحرب، حتى حل يوم صعودنا لقارب صغير جدا يقوده رجل أشبه بخفاش أسود لا يعرف الرحمة بل يعلّم جيدا فنون الرعب".

"صعدت القارب الصغير أنا وطفلي أحمل طعاما وقع ببداية رحلتي، لربما الأسماك دعت ربها دعوة صادقة ليرزقها بطعام كهذا، تحرك القارب نحو ما يدعى بسفينة الآن، بدا كل إنسان أنّه مسؤول عن نفسه فقط، لا فرق بين رجل أو امرأة حتى طفل، لأن في تلك اللحظة الخبيثة بينما كان الجميع يقفز للقارب الآخر، وقع طفلي بالبحر وأبعدّته الأمواج عني، لكن لحسن الحظ ودعائي لربي كنت قد ألّبسته سترة نجاة مائية قامت برفعه للحياة من جديد ونجى بفضل رب العالمين".

"كانت ثمانيّة أيام من الجوع والعطش والخوف، والموت الذي لم يبتعد عنا فقد كان يحلّق فوق القارب، كانت رحلت موت قادّتنا نحو مستقبل جميل يخبّئ في طياته أياما وأحلاما جديدة".

مرت رحلت التهريب كأيّ رحلة لمواطن سوري يبحث عن السلام. وبعد أيام وصلت إلى السويد، كانت السويد بلدا جميلا وهادئا يعم بها السلام الذي فقدّته في وطني، ولم أحتج أكثر من هذا، أجريت جميع المعاملات الحكومية عند الوصول ثم ذهبنا إلى "كامبات" للاجئين، ومكثت بها تسعة أشّهر منّتظرا بها إقامتي لكن هذه التسعة أشّهر كانت قاسية جدا.

أمي أين أنت؟

"تأبى المصائب إلا أن تأتي مجتمعة" قول يصدق على حكاية الشابة "علا" والتي ما إن تستوعب مصيبة إلا أن تأتيها الثاني، ربما هي لعنة الحرب عندما تطارد لاجئا فارا من سعيرها، فتحدثنا "علا" عن والدتها التي يرجح أنها معتقلة الآن:

كعادتي اليومية أرسلت رسالة لأمي ...

أمي أين أنت؟ لماذا لم تكلّمينّني منذ الصباح؟

بدأت بسؤال أقاربي عنها ...

خالتي أرجوك أين أمي؟

ردت أمك مصابة بالسرطان وتأخذ جرعات علاج، ولكن جسمها لم يستجيب للعلاج فهي متعبة للغاية، لم أكن أعلّم أن أمي تحمل مرضا ما، لكنّها خبئت عني هذا كي لا أحزن، ليتك أخبرتني يا أمي كي أسأل  إنّ كان السرطان يحقن بالدم لحقنّته وعانيت بدلا عنك ....

عادت أمي للمنزل وكانتْ بصحة لا بئس بها، كنت أكلّمها بشكل يومي ولكن بعد أسبوع عاودت الإرسال،

أمي آلم تشتاقي لابّنتك الوحيدة؟

لم ألقى أي رد!

عاودت سؤال خالتي أين أمي؟

بالبداية حاول الجميع إخفاء هذا الخبر عني، أصبحت أسأل الجميع أين هي؟ أجيبوني ....

علا إن أمك قد فقدّت بالأمس عند خروجها من المنزل وذهبت ولم تعد، لا يمكن لعقل أنّ يتخيل تمزقي وانهياري في تلك اللحظات، تمنيت الموت ولم أجده، سعيت وراء الحقيقة ولم أجد أثرا لأمي إلا أنّها قد اختفت أو اعتقلت في دمشق ك كثيرون مثلها ...

كل ما فكرت انها معتقلة اسأل نفسي بأي ذنب سجنت وظلمت وبأي ذنب هي الان گ عصفور يناجي لحريته لم يسبق لها ان ابدت رئيا سياسيا، كيف تستطيعون قطع أجنحت امي وسجنها؟

من صرح أن تكون أمي هنا؟

أي سجان أبله لم يرى في عيون امي وجه أمه وفعلها.....

استمرت صدمتي لعدة شهور، تملأ الكوابيس فيها مخيلتي

هل اعتقلت حقا؟

هل أصيبت بشظية طائشة؟

هل اختطفت؟

هل ماتت بتفجير قريب؟

أين هي الآن حية أم ميتة؟ هل تأكل وتنام؟

أنا أعلّم أن السرطان ليس هو قاتلها من قتلها شيء آخر.

وليومي هذا أنام على أمل أن أراها واستيقظ على واقع لم يكن.

أمي لقد مرت خمس سنوات (رحمك الله) إنّ كنت حية أو ميتة.

أنا الآن أخجل أنّ أعترف أنّي أتمنى أنّ أراها كذلك، لكي أجد قبرا أزوره لها، على أن أفقّد جثمانها للأبد، سامحيني فأنا أحبك.

الموت صديق لعائلتي!

تقول علا: "أنا الآن فتاة متخبطة بين الحاضر والمستقبل، لا أعلّم أنه يتوجب عليّ الحزن واليأس أن يسيطر على نفسي، أم أطمع بالمستقبل وأتجاهل قلبي ، نعم تجاهلّت جميع مشاعري ، ووضعت أملا بأخي الصغير ، كان علي أنّ أكون أما له رغم المسافات التي بيننا ، ربما كنت فعليا أما وأبا له ، لكن بعد فترة زمنية طالت لتصل إلى ستّة أشّهر عاد إليّ الزمن ليأخذ أخي مثل أمي ، ليأخذ أصّغر قطعة تركتها لي".

لم أستّطع عمل شيء سوى الاكتئاب وسجن نفسي في غرفة مظلمة، كي أعيش قليلا مع أطياف أمي وأخي، كان خيالي يقول لي أنّهم متعبون في أماكن مظلمة يملئها الموت، وهوائها الخوف، صامتون ينظرون لسقف أسود.

مع الأيام أصحبت أرى أن هذا شيء لا فائدة منه سوى أيام وساعات تمضي ولا تنتظر أحدا.

بدأت بتعلّم اللغة السويدية وهنا كنت أرى أنها ستكون فاصلة تحول لحياة جديدة،

درست المرحلة الأولى للغة، وفي يوم امتحاني للمرحلة الثانية وقبل دخولي شعرت بقبضة ضغطت على قلبي، ثم رن هاتفي، علا أخاك الكبير توفي نتيجة جلطة دماغية، وجوع لم يحتمله جسده، وذلك كله نتيجة حرب لعينة سلبتْ منه كل شيء، عدت للمنزل باكية مهزومة، لم أتفاجئ كثيرا لأني أصبحت أدرك ان مصير الصمود هو الموت.

وكان مصير بقائه في مخيم اليرموك الجائع العطش هو الموت ككثيرين ممن استشهدوا.

لم تعد الحرب هناك بالرصاص أصبحت الحرب بالحصار

سلام على أرواح بريئة سلمية صامدة في مخيمي حتى الان...

أفتّقد أبا وأما وثلاثّة إخوة، وأخت قد هربت من الموت إلى الموت الأخير، لتموت على أرض يونانية، وقتّها علمت أنّ الموت هو صديق عائلتي، لا بل فرد منها، كلما أشتاق لشخص من العائلة أخذه لزيارته، لقد أصبحت باردة الشعور لا أتأثّر بشيء إطلاقا، لا أملّك الإحساس بشيء، لا أملّك سوى ضحكة تملّئ هذا العالم قهرا، أيّقنت أنْ لا شيء سيبقى ، وأنّه قد قدّر عليّ أن أبقى وحيدة ، أتذكر مقولّة تنّسب لأمي كانت تقول لي فيها " أنّ جميع الورود تذبل دون رعاية.

هي مقولة لا تحتمل التصديق، لأن هناك ورودا تنبت في الصحراء حيث لا أحد، وهي ورود نادرة وجميلة، شاء الله أنّ تكون وحيدة وقوية لا تحتاج لسواه، وانت وردة الصحراء يا ابنتي"، هذه الحروف عالقة في ذهني، أردّدها عندما أرى نفسي وحيدة، وكلما نظرت حولي ورئيت الجميع يملكون أحدا من عائلتهم.

أيام عديدة حملت في قلبي الحزن ولم أستّطع أن أبوح بها كي أبقى تلك الفتاة القوية التي لم يشهدْ أحد بعّد انكسارها.

قوتي الآن أتت من شدة الموت والفقّدان

من يتحدث إلى علا يتفاجأ بحجم قوتها وصبرها، فربما من النادر جدا أن يستطيع من مرّ بجميع تلك المحن أن يتحدث للآخرين، عداكم عن الاستمرار والنجاح في بلد تعد مستويات الاكتئاب والانتحار فيه الأعلى عالميا، وترد علا قوتها إلى شدة ما مرت فيه، فتقول:

قوتي الآن أتت من شدة الموت والفقّدان، هي ذات القوة التي تجعلني لا أبالي بشيء في الحياة سوى سعادتي ونجاحي.

أرى أن جميع ما حدث في حياتي، ووصولي إلى هنا رتّبه لي رب العالمين، فلو بقيت في دمشق للاحقتني الذكريات حتى قتلتني، ولأنني هنا ولأنني بسلام ها أنا أتمم تعليمي وأنّظر إلى الأفق وأمشي بطريق أتاحه لي هذا البلد العظيم.

أنا لن أكون كغيري وأقول إن هذه ليست ببلدي، لا لن أقول هذا أنا أقول أنّ أي بلد خلقتْ للسلام ولا تعرف سوى الحب أنا أنتمي إليها.

وفي النهاية إنّ الحياة هي من تدقق تفاصيل طريقنا وهي من ترسّمه أيضا، فالبطولة أن نقف مهما كانت تفاصيل الحياة قاسية، فالحب لا ينتهي والسلام لا ينتهي، والتفاصيل القاسية التي نمر بها بكل بشاعتّها نستطيع أنْ نحولها إلى الحب والسلام، فقط بصمودنا وبثبات قلوبنا.

حكاية "علا" هي حكاية تختزل كافة معاني وأهوال الحرب، حكاية تختزل كلمة مأساة بكل تفاصيلها، حكاية تختزل الألم والأمل الذي عاشه ويعيشه حتى الآن أكثر من نصف مليون لاجئ فلسطيني في سورية شردتهم الحرب من منازلهم ومخيماتهم على بقاع المدن السورية وعواصم العالم بجميع قاراته، مأساة مستمرة منذ أكثر من ست سنوات وحتى الآن لا يجد فلسطينيو سورية من يقف معهم ويعمل على إيقاف معاناتهم.

الوسوم

رابط مختصر : https://actionpal.org.uk/ar/post/8103

مجموعة العمل – علاء البرغوثي | السويد

مجموعة العمل من أجل فلسطينيي سورية وضمن سعيها لتوثيق معاناة اللاجئين الفلسطينيين السوريين تحدثت للشابة "علا درباس" ابنة مدينة حيفا في فلسطين المحتلة والمولدة في مخيم اليرموك للاجئين الفلسطينيين بدمشق، والمقيمة حالياً في مدينة كالمر بمملكة السويد، حيث تم توثيق حكايتها ضمن مبادرتها التي حملت عنوان "هذه حكايتي" التي توثق قصص اللاجئين الفلسطينيين خلال الحرب السورية.

"نحن نجهل الواقع الأليم الذي ينتّظرنا في المستقبل، فلو أنّنا علمناه ما كان الألم بانتّظارنا أساسا لا حاضرا ولا مستقبلا، لو أنّني علّمته لكنت ما سرّت إليه منذ البداية، ولكنت ما أسّست وطنا داخل وطنين ضمّاني في رحابهما عشقا، ولكنت ما تركت دمشق وياسمينها المنثور على أرضها جمالا، ولكنت ما تركت حيفا وجمال غصّنها الأخضر، ولو أنّني أعلّم واقع المستقبل لما أسّست وطنا داخل وطنين".

"لماذا تلاشينا إلى حد أصبحنا فيه ذرات تتطاير لنْ أقول طيور أو ما شابه، فنحن ذارت من وطن وكل ذرة وقت من وطن أصغر..."

"نعم أعني من بيوت كانت أوطان حتى تفجرت وتطايرنا منها إما إلى السماء وإما إلى دول بالكاد مدّت لنا طرفا من يدها لتختّبئ تحت شعار النخوة العربية التي ما هي إلا حروف على الورقة المنّسية، تحت هذا المسمى قد شردنا في مخيمات وحدائق ومستودعات، وفي هذه الأماكن غفت وجوه متعبة على أرصفة النخوة في الشوارع العربية..."

بهذه الكلمات بدأت الشابة "علا درباس" حدثيها معنا، "علا" التي ولدت وعاشت في مخيم اليرموك للاجئين الفلسطينيين بدمشق، تروي لنا حكايتها مع الحرب في سورية حكاية ألم وأمل، حزن وفرحة غير مكتملة بسبب الخسائر التي لا تعوض في كثير من الأحيان.

تقول علا: حكايتي هي أني فتاة أنّتمي إلى وطنّين، وطن الزيتون الذي لم أره، ووطن العشق الذي قضيت فيه خمسة عشر عاما إلا سبعة في المنفى أسمى مراحل الجمال برفقة الياسمين، السبعة أعوام التي قضيتها وأقضيها الآن في المنفى هي غيمة سوداء تملئ الأفق ولا أرى لها نهاية.

رواية أبي التي مهما مر الزمن عليها ستبقى القضية الأولى لجميع أحفاده، أبي هو ذلك الرجل الذي شهد النكبة الفلسطينية عام 1948 وخرج من أرضّه شابا واعيا عندما حلت هذه الّلعنة بوطنه، الحرب التي أكلتْ وطن الزيتون، الوطن الذي لم تعد أرضّه تعرف السلام حتى يومنا هذا، هو وطن الجمال والغصّن الأخضر.

كنا نقّطن داخل حضن بديلا عن فلسطين، حضن دافئ يملّئه التواضع والحب يسمى (مخيم اليرموك).

المخيم لم يكن حيا صغير مجردا من التعريف، ولكن على العكس تماما هذا المكان لم يأخذ حقه عندما كنت بالمخيم، لأنّه كان وطنا كاملا نجحت وتعثرت داخله، وطن لم أعلم يوما بحبي المدفون له، لأنّه جزء من فلسطين أدخلته معجزة كونية لداخل سوريا، أو أن سوريا وفلسطين شقيقتان تبرّعم منهما مخيم اليرموك.

توفي أبي لكنه ترك لي إرثا وهو مفتاح قضية وخارطة وحب الوطن

بالرغم من الآلام التي عاشتها علا والتي سوف سنسرد تفاصيلها فيما بعد، تبدو الشابة الفلسطينية اللاجئة في سورية أكثر تمسكا بأرضها وأرض أجداها "فلسطين" فلم تقتل الحرب كما لا يقتل البعد والهجرة حب فلسطين وإيمان الشابة بحقها في أرضا أجدادها، فنرى في حديثها قصة كل لاجئ فلسطيني عشق فلسطين من أحاديث الأجداد والآباء، فتروي لنا "علا" تفاصيل حديثها هي ووالدها عن وطنها الذي لم تراه إلا من خلال والدها:

كان أبي يروي لي عن حيفا وجمال حيفا وهوائّها وكأنّها أشبّه بمدينة خيالية لم تنّزل على هذه الأرض.

حتى أنّه ذات مساء دار حوار بيني وبين والدي عندما سألّته:

هل سنعود يوما؟

نظر إليّ قائلا أنا لن أعود فلقد بلغت السبعين من العمر ولم يعد هناك متسع من الوقت للعودة، ولكن هل ستعديننّي أنك ستعودين يوما ما؟

أتعدينّني بزرع شجرة زيتون هناك، وتحققي مالم أستّطع أنّ أحققه؟

في وقتها الّتزمت الصمت فقط لكني عاهدت نفسي أن أفيّ بذلك الوعد.

قال أبي يا ابنتي أقدّر اندهاشّك لحبي وحرصي بأن ازرع بقلبك هذا الحب ذاته، لأن من يولد في حيفا لا يموت حزنا على شيء في هذه الدنيا بقدر ما يموت حزنا وآلما على جنة الله في أرضه.

كبرت وكبر إيماني ببلد لم أرها بعد إلا بأعين أبي وذلك من شدة بريق تلك العينان العسليتان اللتين أتخذ منهما لمعان قبة الأقصى لقد كان صدق المشاعر بتلك العينان كفيلة بأنّ أمجّد قضيتي وأفتّخر بها، ذلك ما زرعه رجل صلّب في داخلي.

كان على يقين أنّ ابنته ستسجد بأرض حرمت عليه، حتى توفي أبي ولم يعد هناك أحد يحدّثني عن فلسطين، ولم أعد أرى حيفا لأن عيناه أغلّقت للأبد، لكنه ترك لي إرثا وهو مفتاح قضية وخارطة وقلب  كل مؤمن بحب الوطن ولا تعيبني كلمة لاجئة.

"2012" وارهاصات التغريبة الفلسطينية الثانية

مضت الأيام وأقبلت سنة جديدة وانتهت لكنها لم تنتهي بسلام، كانت هذه السنة هيّ بداية السنوات السبع من عمري، وبداية حرب لعينة بدأتْ كسرطان في طرف جسد قوي، امتدتْ في جميع أنحاء الوطن حتى وصلت إلى المخيم للمرة الأولى، الكلام لعلا، التي حمدت الله أن والدها لم يعش ليشاهد أهوال ما حل بمخيم اليرموك وأهله، وتقول علا:

أحمد الله على وفاتك يا أبي، كي لا تشهد النكبة الثانية في اليرموك، كي لا ترى مشهد التغريبة الثانية في اليرموك، ويعتصر قلّبك كما يسيّطر الألم على قلبي الآن.

الآن حرب في كل مكان دويّ طيران يملئ المكان رعبا، يطرق الأبواب ثم صمت مفاجئ وضربة طائرة هزّت أرجاء المكان، ومن ثم أرواح تتعالى نحو السماء، هذه كانت فقط البداية، البداية فقط.

وعن الأوضاع في مخيم اليرموك وما شهده المخيم من أعمال عسكرية شملت القصف بالطائرات والقذائف، تحدثنا علا:

حل اليوم الثاني باردا قاسيا ودوي القذائف في كل مكان وأجزاء القذائف من شظايا وغيرها انتثرت على جدران ممتلئة بصور خرائط فلسطين وحنظلة ورسومات القدّس، فبقّدر ما تشوهت الحيطان تشوهت وتهشمت قلوبنا.

بعد ساعات حركة نزوح جماعية إلى خارج المخيم، وهنا قد بدأت التغريبة الفلسطينية مكونة بالجزء الثاني منها، وقفت أصرخ وقتها وأردد لا تخرجوا أرجوكم ابقوا كي أبقى وكي يبقى لنا الوطن أرجوكم....

لكن الجميع قد خلى خوفا على أرواح أشبه بالأرواح، ولم يبقى إلا من عاهد على الصمود والبقاء حتى أغلّق المخيم وبدأ الحصار هنا.

خرجت أنا وجميع أفراد عائلتي عدا أخي الذي بقيّ هناك يحمل أملا أن هذه الشّدة هي أيام معدودة فقط.

وبالنسبة لي أصبحت فتاة لا تحمل أملا في قلبها وكأن شيئا أسودا طوق هذا القلب، ولم يعد لي سبيل سوى أنّ أكون كباقي الناس، وأنّ أودع ياسمين الشام وأزقتها مرغمة.

مرغمة على السفر مودعة أمي

حالها كحال السواد الأعظم ممن أجبرتهم الحرب على مغادرة دمشق، تصف علا يوم خروجها منها مودعة أمها وذكريات طفولتها، خائفة من عدم القدرة على تجدد اللقاء والعودة من جديد، فتصف علا ذلك المشهد الذي يحمل في طياته الكثير من الألم والقلق والخوف على الأهل.

في يوم سفري ودعت أمي وودعت شامي ومخيّمي، إنّ وداع أم واحدة مؤلم جدا لا يحتّمل قسوتّه أيّ قلب، لكن لا أعلّم ما هي تلك القوة التي أجبرتني أنّ أودع ثلاث أمهات في ساعة واحدة.

أمي هي قوتي وأملي ودعائي ضممّتها للمرة الأولى بقوة ألف حجر، ربما هو العلّم بما سيأتي من آلم فقدان في المستقبل وربما علمت أنها آخر نظرة وضمة ستكون بيننا وربما سأفقدها،

ربما ذلك .....

غادرت مطار دمشق في هذا اليوم، لا أحمل قلبا بل أحمل مولودا فقط هو طفلي إلى مصر.

أنا وطفلي ورحلة الموت

في مصر بدأت رحلة "علا" نحو أوروبا، فقد كانت مجرد محطة للانطلاق بحثا عن الأمان والكرامة لها ولابنها، ربما لو وجدت علا وغيرها الآلاف من اللاجئين الفلسطينيين السوريين بلدا عربيا واحدا يجيرهم من الحرب واللجوء لما خاطرت بروحها وروح طفلها بركوب قوارب الموت والمجازفة بحياتهما للوصول إلى بر الأمان.

"من مصر بدأتْ لحظات الخوف والرعب ووسائل التهريب وتذاكر الموت وتجار البشر، لا أعلّم إنّ كانوا بشرا أم لا، كنت أراهم رجال لعنة الحرب، حتى حل يوم صعودنا لقارب صغير جدا يقوده رجل أشبه بخفاش أسود لا يعرف الرحمة بل يعلّم جيدا فنون الرعب".

"صعدت القارب الصغير أنا وطفلي أحمل طعاما وقع ببداية رحلتي، لربما الأسماك دعت ربها دعوة صادقة ليرزقها بطعام كهذا، تحرك القارب نحو ما يدعى بسفينة الآن، بدا كل إنسان أنّه مسؤول عن نفسه فقط، لا فرق بين رجل أو امرأة حتى طفل، لأن في تلك اللحظة الخبيثة بينما كان الجميع يقفز للقارب الآخر، وقع طفلي بالبحر وأبعدّته الأمواج عني، لكن لحسن الحظ ودعائي لربي كنت قد ألّبسته سترة نجاة مائية قامت برفعه للحياة من جديد ونجى بفضل رب العالمين".

"كانت ثمانيّة أيام من الجوع والعطش والخوف، والموت الذي لم يبتعد عنا فقد كان يحلّق فوق القارب، كانت رحلت موت قادّتنا نحو مستقبل جميل يخبّئ في طياته أياما وأحلاما جديدة".

مرت رحلت التهريب كأيّ رحلة لمواطن سوري يبحث عن السلام. وبعد أيام وصلت إلى السويد، كانت السويد بلدا جميلا وهادئا يعم بها السلام الذي فقدّته في وطني، ولم أحتج أكثر من هذا، أجريت جميع المعاملات الحكومية عند الوصول ثم ذهبنا إلى "كامبات" للاجئين، ومكثت بها تسعة أشّهر منّتظرا بها إقامتي لكن هذه التسعة أشّهر كانت قاسية جدا.

أمي أين أنت؟

"تأبى المصائب إلا أن تأتي مجتمعة" قول يصدق على حكاية الشابة "علا" والتي ما إن تستوعب مصيبة إلا أن تأتيها الثاني، ربما هي لعنة الحرب عندما تطارد لاجئا فارا من سعيرها، فتحدثنا "علا" عن والدتها التي يرجح أنها معتقلة الآن:

كعادتي اليومية أرسلت رسالة لأمي ...

أمي أين أنت؟ لماذا لم تكلّمينّني منذ الصباح؟

بدأت بسؤال أقاربي عنها ...

خالتي أرجوك أين أمي؟

ردت أمك مصابة بالسرطان وتأخذ جرعات علاج، ولكن جسمها لم يستجيب للعلاج فهي متعبة للغاية، لم أكن أعلّم أن أمي تحمل مرضا ما، لكنّها خبئت عني هذا كي لا أحزن، ليتك أخبرتني يا أمي كي أسأل  إنّ كان السرطان يحقن بالدم لحقنّته وعانيت بدلا عنك ....

عادت أمي للمنزل وكانتْ بصحة لا بئس بها، كنت أكلّمها بشكل يومي ولكن بعد أسبوع عاودت الإرسال،

أمي آلم تشتاقي لابّنتك الوحيدة؟

لم ألقى أي رد!

عاودت سؤال خالتي أين أمي؟

بالبداية حاول الجميع إخفاء هذا الخبر عني، أصبحت أسأل الجميع أين هي؟ أجيبوني ....

علا إن أمك قد فقدّت بالأمس عند خروجها من المنزل وذهبت ولم تعد، لا يمكن لعقل أنّ يتخيل تمزقي وانهياري في تلك اللحظات، تمنيت الموت ولم أجده، سعيت وراء الحقيقة ولم أجد أثرا لأمي إلا أنّها قد اختفت أو اعتقلت في دمشق ك كثيرون مثلها ...

كل ما فكرت انها معتقلة اسأل نفسي بأي ذنب سجنت وظلمت وبأي ذنب هي الان گ عصفور يناجي لحريته لم يسبق لها ان ابدت رئيا سياسيا، كيف تستطيعون قطع أجنحت امي وسجنها؟

من صرح أن تكون أمي هنا؟

أي سجان أبله لم يرى في عيون امي وجه أمه وفعلها.....

استمرت صدمتي لعدة شهور، تملأ الكوابيس فيها مخيلتي

هل اعتقلت حقا؟

هل أصيبت بشظية طائشة؟

هل اختطفت؟

هل ماتت بتفجير قريب؟

أين هي الآن حية أم ميتة؟ هل تأكل وتنام؟

أنا أعلّم أن السرطان ليس هو قاتلها من قتلها شيء آخر.

وليومي هذا أنام على أمل أن أراها واستيقظ على واقع لم يكن.

أمي لقد مرت خمس سنوات (رحمك الله) إنّ كنت حية أو ميتة.

أنا الآن أخجل أنّ أعترف أنّي أتمنى أنّ أراها كذلك، لكي أجد قبرا أزوره لها، على أن أفقّد جثمانها للأبد، سامحيني فأنا أحبك.

الموت صديق لعائلتي!

تقول علا: "أنا الآن فتاة متخبطة بين الحاضر والمستقبل، لا أعلّم أنه يتوجب عليّ الحزن واليأس أن يسيطر على نفسي، أم أطمع بالمستقبل وأتجاهل قلبي ، نعم تجاهلّت جميع مشاعري ، ووضعت أملا بأخي الصغير ، كان علي أنّ أكون أما له رغم المسافات التي بيننا ، ربما كنت فعليا أما وأبا له ، لكن بعد فترة زمنية طالت لتصل إلى ستّة أشّهر عاد إليّ الزمن ليأخذ أخي مثل أمي ، ليأخذ أصّغر قطعة تركتها لي".

لم أستّطع عمل شيء سوى الاكتئاب وسجن نفسي في غرفة مظلمة، كي أعيش قليلا مع أطياف أمي وأخي، كان خيالي يقول لي أنّهم متعبون في أماكن مظلمة يملئها الموت، وهوائها الخوف، صامتون ينظرون لسقف أسود.

مع الأيام أصحبت أرى أن هذا شيء لا فائدة منه سوى أيام وساعات تمضي ولا تنتظر أحدا.

بدأت بتعلّم اللغة السويدية وهنا كنت أرى أنها ستكون فاصلة تحول لحياة جديدة،

درست المرحلة الأولى للغة، وفي يوم امتحاني للمرحلة الثانية وقبل دخولي شعرت بقبضة ضغطت على قلبي، ثم رن هاتفي، علا أخاك الكبير توفي نتيجة جلطة دماغية، وجوع لم يحتمله جسده، وذلك كله نتيجة حرب لعينة سلبتْ منه كل شيء، عدت للمنزل باكية مهزومة، لم أتفاجئ كثيرا لأني أصبحت أدرك ان مصير الصمود هو الموت.

وكان مصير بقائه في مخيم اليرموك الجائع العطش هو الموت ككثيرين ممن استشهدوا.

لم تعد الحرب هناك بالرصاص أصبحت الحرب بالحصار

سلام على أرواح بريئة سلمية صامدة في مخيمي حتى الان...

أفتّقد أبا وأما وثلاثّة إخوة، وأخت قد هربت من الموت إلى الموت الأخير، لتموت على أرض يونانية، وقتّها علمت أنّ الموت هو صديق عائلتي، لا بل فرد منها، كلما أشتاق لشخص من العائلة أخذه لزيارته، لقد أصبحت باردة الشعور لا أتأثّر بشيء إطلاقا، لا أملّك الإحساس بشيء، لا أملّك سوى ضحكة تملّئ هذا العالم قهرا، أيّقنت أنْ لا شيء سيبقى ، وأنّه قد قدّر عليّ أن أبقى وحيدة ، أتذكر مقولّة تنّسب لأمي كانت تقول لي فيها " أنّ جميع الورود تذبل دون رعاية.

هي مقولة لا تحتمل التصديق، لأن هناك ورودا تنبت في الصحراء حيث لا أحد، وهي ورود نادرة وجميلة، شاء الله أنّ تكون وحيدة وقوية لا تحتاج لسواه، وانت وردة الصحراء يا ابنتي"، هذه الحروف عالقة في ذهني، أردّدها عندما أرى نفسي وحيدة، وكلما نظرت حولي ورئيت الجميع يملكون أحدا من عائلتهم.

أيام عديدة حملت في قلبي الحزن ولم أستّطع أن أبوح بها كي أبقى تلك الفتاة القوية التي لم يشهدْ أحد بعّد انكسارها.

قوتي الآن أتت من شدة الموت والفقّدان

من يتحدث إلى علا يتفاجأ بحجم قوتها وصبرها، فربما من النادر جدا أن يستطيع من مرّ بجميع تلك المحن أن يتحدث للآخرين، عداكم عن الاستمرار والنجاح في بلد تعد مستويات الاكتئاب والانتحار فيه الأعلى عالميا، وترد علا قوتها إلى شدة ما مرت فيه، فتقول:

قوتي الآن أتت من شدة الموت والفقّدان، هي ذات القوة التي تجعلني لا أبالي بشيء في الحياة سوى سعادتي ونجاحي.

أرى أن جميع ما حدث في حياتي، ووصولي إلى هنا رتّبه لي رب العالمين، فلو بقيت في دمشق للاحقتني الذكريات حتى قتلتني، ولأنني هنا ولأنني بسلام ها أنا أتمم تعليمي وأنّظر إلى الأفق وأمشي بطريق أتاحه لي هذا البلد العظيم.

أنا لن أكون كغيري وأقول إن هذه ليست ببلدي، لا لن أقول هذا أنا أقول أنّ أي بلد خلقتْ للسلام ولا تعرف سوى الحب أنا أنتمي إليها.

وفي النهاية إنّ الحياة هي من تدقق تفاصيل طريقنا وهي من ترسّمه أيضا، فالبطولة أن نقف مهما كانت تفاصيل الحياة قاسية، فالحب لا ينتهي والسلام لا ينتهي، والتفاصيل القاسية التي نمر بها بكل بشاعتّها نستطيع أنْ نحولها إلى الحب والسلام، فقط بصمودنا وبثبات قلوبنا.

حكاية "علا" هي حكاية تختزل كافة معاني وأهوال الحرب، حكاية تختزل كلمة مأساة بكل تفاصيلها، حكاية تختزل الألم والأمل الذي عاشه ويعيشه حتى الآن أكثر من نصف مليون لاجئ فلسطيني في سورية شردتهم الحرب من منازلهم ومخيماتهم على بقاع المدن السورية وعواصم العالم بجميع قاراته، مأساة مستمرة منذ أكثر من ست سنوات وحتى الآن لا يجد فلسطينيو سورية من يقف معهم ويعمل على إيقاف معاناتهم.

الوسوم

رابط مختصر : https://actionpal.org.uk/ar/post/8103