map
RSS instagram youtube twitter facebook Google Paly App stores

عدد الضحايا

حتى اليوم

4256

"بودكاست قصة من المخيم" حين يخسر فلسطينيو سورية أولادهم في المهجر (2)

تاريخ النشر : 17-06-2021
"بودكاست قصة من المخيم" حين يخسر فلسطينيو سورية أولادهم في المهجر (2)

مجموعة العمل – لندن

يتابعُ أبو جهاد حديثَه لمجموعةِ العمل، حيث تبدو عليهِ أماراتُ الحزنِ والغصّةِ عندما يصلُ إلى اللحظاتِ الحرجة، إذ يقول:

" وصلتْ زوجتي ولم تجدْ ابنَها في مُدرّجِ الاستقبالِ داخلَ مطارِ أمستردام العاصمة، حيث بدت عليها علاماتُ الصدمة، هل من المعقولِ ألا يأتي ولدُها إلى المطار ليستقبلَ والدتَه التي لم يرَها منذُ حوالي سنتين؟! وبالتالي كانت هذه النقطةُ بمثابةِ المُنغّصِ الكبيرِ لفرحتِنا بوصول زوجتي وابنتي الصغيرة إلى مُدرّجِ المطار، ليس هذا فحسب بل إننا لم نجدْهُ عندما وصلنا إلى البيتِ أيضاً، ولم يتصلْ ليطمئنَّ على وصولِ أمِّهِ وأختِهِ الصغرى التي كانت مُدلّلَتْهُ الغاليةَ في هذا الوجود، ولم يسألْ عن الموضوعِ بشكلٍ عام..

علاماتُ الارتباكِ التي بدت عليَّ أثارت حفيظةَ زوجتي، ودفعَتها إلى مطالبتي بقولِ الحقيقة، حيث ظنّتْ أنّ جهاد قد حدثَ لهُ أمرٌ طارئٌ أُخفيْهِ عنها، هل مات؟! هل سُجِن؟! لا يا مدام بكل بساطة ابنُكِ لم يمت ولم يُسجَن على الإطلاق، بل هو حُرٌّ طليقٌ وبصحّةٍ موفورة، فالقضيةُ فقط أنّّ دروب المخدرات قد ابتلعته حيّاً، سابَ في مآثمِ اللهوِ وعدمِ الاكتراث، ابنُكِ اليومَ شابٌ آخر، ليس هو ذلك الشابَ الخلوقَ الذي تعرفينَهُ سابقاً..

كان هذا الخبرُ صاعقةً قاتلةً بالنسبةِ لزوجتي التي ماتزالُ حقائبُها مغلقةً ولم تفتحْها بعد، إذ همّت تريدُ العودةَ إلى سورية، باكيةً مكسورةَ الجناح، وكأنّ العودةَ إلى سورية سهلةٌ وبسيطة، ولكنّهُ قلبُ الأم الذي يعبّرُ عن غضبِهِ بمثلِ هذه التصرفاتِ الطفوليةِ البريئة..

حاولتُ مواساتَها وتهدئتَها، ولكنَّ ابني لم يساعدْني في ذلك البتّة، إذ لم يستجبْ لكلِّ نداءاتِنا له سواءً أنا أم زوجتي أم أخته المتلهّفةِ لرؤيتِهِ والتي كانت آنذاك تبلغ من العمر عشرَ سنواتٍ تقريباً، ولم يعدْ إلينا إلا في آخرِ الليل، ليصافحَ أمَّهُ وأختَهُ مصافحةً عاديةً للغاية، وكأنهُ كان معهم بالأمسِ القريب، لتحتضنَهُ أمُّهُ رغماً عنه، وهي تبكي..

مرت الأيامُ و كثيراً ما كانت أمُّهُ تحاولُ نصيحتَهُ بشتى السبل ، حيث طلبَت مني أن أكُفَّ عن توبيخِهِ دائماً ، و أنها سوف تستلمُ المهمّةَ هي بنفسِها ، فكانت تنصحُه تارةً ، و يعلو صوتُها تارةً أخرى ، و تهددُهُ بالعودة إلى سورية في حال بقي مصرّاً على موقفِه ، و أحياناً كانت تهددهُ بالانتحار ، و كلُّ ذلك لم يُجدِ نفعاً معه ، حيث كان يبررُ في كلِّ مرّةٍ بأنّها حياتُهُ الشخصيةُ و هو حرٌّ في تصرفاتِه ، و علينا أن نتركَهُ ليحيا الحياةَ التي يريدها هو ، و هذا تطورٌ جديدٌ و تصريحاتٌ جديدةٌ ما أدلى بها سابقاً في الجلساتِ التحاوريّةِ معي أو مع أمِّه ، إذ كان في السابقِ ينكرُ الأمرَ بشكلٍ كامل ، أما اليوم فها هو يعترفُ بتناولِهِ المخدراتِ و المشروباتِ الروحية ، و علينا قبولُ ذلك ، و في حال كانَ الأمرُ عالةً علينا فإنه سيغادرُ المنزلَ كي لا يحرجَنا أمام الناس ..

والدتُه أصيبت باليأسِ و استسلمَت للأمرِ الواقع، و لهذا توقفَت عن كل أساليبِها السابقة، ليس هذا فحسب بل بدأت تحاولُ إقناعي أيضاً بأن نتركَهُ و شأنَه، وبأنّ كلَّ الشبابِ يسيرونَ على المنوالِ ذاتِه، خاصةً أولئك الذين وصلوا حديثاً إلى أوروبا، وراحت تضربُ لي أمثلةً على ذلك، فابنُ فلانٍ يتناولُ السجائر، وابنُ فلانٍ يتناولُ العقاقيرَ المخدّرة، وابنُ فلانٍ تزورُهُ عشيقتُهُ في عُقرِ بيتِهِ على مرأى من أبيهِ و أمّهِ و بموافقتِهم أيضاً ، وكأنهُ أقنعَها أو أنها تحاولُ إقناعَ نفسِها بعد نفادِ كافةِ الأساليب من يدِها ، الأمرُ الذي كان يُحدِث خلافاً بيني وبينها في كلِّ مرة ، وذلك عندما تطالبُني بعدم إزعاج ابنِها الوحيد، و تقولُ لي إنّ الحشيشَ هو أمرٌ طبيعيٌّ هنا في هولندا، حالُهُ من حالِ التدخين ..

لم أتفاعلْ أبداً مع هذه المحاضراتِ التي كانت تلقيها زوجتي عليَّ كُلّ مساء، وبقيتُ أستغلُّ أيَّ لقاءٍ بيني وبينه لتقديمِ النصحِ عبثاً، فصارَ يقلّل من تواجدِهِ معنا في البيت تَجَنّباً للحديثِ معي، إلى أن صرتُ مثل زوجتي لا أكترث به، أنظرُ إليهِ في كلِّ يومٍ وأموتُ حسرةً عليه، فولدي الوحيد يموتُ أمامي ولا أستطيعُ فعلَ أي أمر..

لُبُّ المشكلةِ حصلَ عندما جئتُ إلى المنزلِ ذاتَ مرة، فوجدتُهُ مع أمِّهِ في المنزل، وإلى جوارِهِ فتاةٌ عمرُها ما يقاربُ عشرينَ سنة، تكبرُهُ بعامٍ ونصف تقريباً، شديدةُ الجمال، ترتدي لباساً سافراً فاضحاً، وتتكلمُ اللغةَ الهولندية، ولدى دخولي عليهم، سارعَت هذه الفتاةُ إلى استيعابِ دهشتي وبادرَت إلى التحيةِ والابتسامة، فرددتُ عليها التحيةَ وسألتُها من أنتِ؟ فقالت أنا صديقةُ ابنِكَ جهاد، ومدّتْ يدَها لنتصافحَ مصافحةً باردةً إلى أبعدِ الحدود..

الموقفُ كان في بدايتِهِ مربكاً لي، لكنّ الأمرَّ الأشدَّ غرابةً بالنسبةِ لي هو رضا زوجتي بما يجري، واستقبالُها لهم وكأن شيئاً لم يحدث، بل إنها تعدُّ لهم القهوةَ والضيافة، وتُبادلُهم الابتساماتِ وتحاولُ الحديثَ مع الفتاةِ بِلُغتِها الهولنديةِ الهشّة.. استدعيتُ ابني إلى غرفةٍ أخرى منفرداً، وطلبتُ منه توضيحاتٍ حول ما يجري في هذه الساعة هنا، فقال لي: إنها صديقتي وأحبَّتْ هي أن تتعرفَ عليكم، وإذا كان الأمرُ مزعجاً لكم فسوف نغادرُ الآن ...

يا لِهولِ المصيبة!! هل من المعقولِ أننا وصلنا إلى هذه الدرجةِ من الانحلالِ نحن القادمينَ من مجتمعٍ شرقيٍّ محافظ؟!! هل سأقبلُ أم أرفضُ هذه القضيةَ الجديدةَ التي جاء بها ولدي إلى صدرِ المنزل؟!! لا لن أقبل، ولأنه كذلك يتوجّبُ عليَّ أن أتصرفَ الآنَ وبشكلٍ عاجل على الفور..

ضربتُه مباشرةً، وطرحتُه أرضاً وبدأت أدوسُ عليه بأقدامي، وكلما حاولَ النهوضَ كنت أدفعُهُ من جديدٍ ليسقط، وأتابعُ الدعسَ عليه في مشهدٍ مُهينٍ للغايةِ له ولصديقتِه، كان ضعيفَ المواجهةِ لا يقوى على النهوضِ بسببِ تناولِهِ المُكثّفِ للمخدرات التي سحبَت منه قوّتَه، حيث كنتُ أتوقّعُ أنني أقوى عليهِ باعتبارِهِ في مُقتبَل الشباب، وأنا الذي ملأ الشيبُ رأسي وبلغتُ الخمسين من العمر..

مشهدٌ مُقزّز للغاية، أن يتنازلَ الأبُ وابنُهُ في أركانِ المنزل.. والدتُهُ وصديقتُهُ حاولتا إبعادي عنهُ فلم تستطيعا، وأختُهُ الصغرى راحت تختبئُ في زوايا المنزلِ بعيداً عن هذا الواقعِ المريرِ الذي لا أدري كيف ستتعايشُ معهُ مستقبلاً..

بدأ الدمُ ينزفُ من أنفِهِ وفمِهِ بعد أن أشبعتَهُ ركلاً وضرباً، ثمّ بدأ يستغيثُ ويطلبُ من صديقتِهِ أن تتصلَ بالشرطة، وهذا ما حصل..

ما هي إلا دقائقُ وكنت مُكبّلَ اليدينِ والدماءُ تملأ الغرفةَ التي تحوّلَت إلى ساحةِ مواجهةٍ بيني و بين ولدي، في سابقةٍ هي الأولى من نوعِها..

 كانت دموعُ زوجتي تغمرُ المشهدَ برمَّتِه، وهناك في المخفر أعطاني اللهُ شجاعةَ التحدثِ وأطلقَ لساني وقلتٌ لهم بلسانٍ طلقٍ بلا خوفٍ أو فَزع: إنّ هذا البيتَ هو بيتي ولن أسمحَ له بمثلِ هذه التصرفات، نحن مسلمون وشرقيّون ويُمنعُ منعاً باتاً عليه أن يخترقَ مبادئَ دينِنا وعاداتِنا ومبادئَنا التي نشأنا عليها، وإذا أرادَ غيرَ ذلك فعليهِ مغادرةُ المنزلِ فوراً، فقالت لي الشرطة: نحن أسعفناهُ إلى المشفى وهو أيضاً يريدُ مغادرةَ المنزل، وسوف نعرضُكَ على القاضي وهو الذي سيحكم بينكما..

القاضي بعدَ ثلاثةِ أيامٍ من اعتقالي حَكَم عليَّ بالسجنِ شهرين، ودفعِ غرامةٍ ماليةٍ قَدْرُها أربعةُ آلافِ يورو، تعويضاً للضررِ الحاصلِ نتيجةَ العراكِ الذي حصل، لكنّ ولدي البارَّ جداً تنازلَ عن حقِّهِ في الدعوة، مقابلَ أن يخرجَ من المنزلِ خروجاً هادئاً وألا أبحثَ عنه وأزعجَهُ وأتعرّضَ له، وهذا ما وقّعتُ عليه عندما خرجتُ من السجنِ بعد شهرين، حيث تعهّدتُ ورقيّاً وخطّياً وشفهيّاً بأنني لن أتعرّضَ له على الإطلاق..

خرجتُ بعد شهرين، فوجدتُ زوجتي في حالةٍ يُرثى لها، وسيرتُنا على كل لسانٍ في المدينةٍ عرباً وهولنديينَ وأجانب، وبالفعل غادر ولدي المنزلَ واستقرّ مع صديقتِهِ في منزلٍ آخرَ بعيداً عنا، باستثناء بعض الاتصالات بينه وبين أمه التي قبلَتْ بالأمر الواقع أو تقبّلته أو حاولت الاستسلامَ والرضوخَ له، أما أنا فما قبلْتُ ولن أقبل..

خسرتُ ابني الوحيد أخي الكريم في هذه الغربة، اِلْتهمَهُ هذا المجتمع المتفكك المُنْحَلّ، وكم كنت أخجلُ من أهلي وأصدقائي سواءً في سورية أم في بلدانٍ أخرى، عندما كانوا يسمعونَ بالقصةِ ويتصلونَ للاطمئنانِ علينا..

لسنا بخير، وهذه هي رسالتي للقارئين، فأولادُنا في مهبِّ الريح وقِسْمٌ كبيرٌ منهم ستأكلُهُ النيرانُ ذاتُها التي أكلَت ولدي، لأنّ القانونَ يجرّمُ قمْعَ الأولاد، وبالتالي لا حيلةَ لأولياءِ الأمور، سوى الدعاءِ للهِ عز وجلّ بأن يحفظَ لهم أولادَهم من الشرورِ والتهلكة، وإلا فسوفَ يراقبونَ من بعيدٍ انهيارَ دولةِ أبنائهم..

الوسوم

رابط مختصر : https://actionpal.org.uk/ar/post/15543

مجموعة العمل – لندن

يتابعُ أبو جهاد حديثَه لمجموعةِ العمل، حيث تبدو عليهِ أماراتُ الحزنِ والغصّةِ عندما يصلُ إلى اللحظاتِ الحرجة، إذ يقول:

" وصلتْ زوجتي ولم تجدْ ابنَها في مُدرّجِ الاستقبالِ داخلَ مطارِ أمستردام العاصمة، حيث بدت عليها علاماتُ الصدمة، هل من المعقولِ ألا يأتي ولدُها إلى المطار ليستقبلَ والدتَه التي لم يرَها منذُ حوالي سنتين؟! وبالتالي كانت هذه النقطةُ بمثابةِ المُنغّصِ الكبيرِ لفرحتِنا بوصول زوجتي وابنتي الصغيرة إلى مُدرّجِ المطار، ليس هذا فحسب بل إننا لم نجدْهُ عندما وصلنا إلى البيتِ أيضاً، ولم يتصلْ ليطمئنَّ على وصولِ أمِّهِ وأختِهِ الصغرى التي كانت مُدلّلَتْهُ الغاليةَ في هذا الوجود، ولم يسألْ عن الموضوعِ بشكلٍ عام..

علاماتُ الارتباكِ التي بدت عليَّ أثارت حفيظةَ زوجتي، ودفعَتها إلى مطالبتي بقولِ الحقيقة، حيث ظنّتْ أنّ جهاد قد حدثَ لهُ أمرٌ طارئٌ أُخفيْهِ عنها، هل مات؟! هل سُجِن؟! لا يا مدام بكل بساطة ابنُكِ لم يمت ولم يُسجَن على الإطلاق، بل هو حُرٌّ طليقٌ وبصحّةٍ موفورة، فالقضيةُ فقط أنّّ دروب المخدرات قد ابتلعته حيّاً، سابَ في مآثمِ اللهوِ وعدمِ الاكتراث، ابنُكِ اليومَ شابٌ آخر، ليس هو ذلك الشابَ الخلوقَ الذي تعرفينَهُ سابقاً..

كان هذا الخبرُ صاعقةً قاتلةً بالنسبةِ لزوجتي التي ماتزالُ حقائبُها مغلقةً ولم تفتحْها بعد، إذ همّت تريدُ العودةَ إلى سورية، باكيةً مكسورةَ الجناح، وكأنّ العودةَ إلى سورية سهلةٌ وبسيطة، ولكنّهُ قلبُ الأم الذي يعبّرُ عن غضبِهِ بمثلِ هذه التصرفاتِ الطفوليةِ البريئة..

حاولتُ مواساتَها وتهدئتَها، ولكنَّ ابني لم يساعدْني في ذلك البتّة، إذ لم يستجبْ لكلِّ نداءاتِنا له سواءً أنا أم زوجتي أم أخته المتلهّفةِ لرؤيتِهِ والتي كانت آنذاك تبلغ من العمر عشرَ سنواتٍ تقريباً، ولم يعدْ إلينا إلا في آخرِ الليل، ليصافحَ أمَّهُ وأختَهُ مصافحةً عاديةً للغاية، وكأنهُ كان معهم بالأمسِ القريب، لتحتضنَهُ أمُّهُ رغماً عنه، وهي تبكي..

مرت الأيامُ و كثيراً ما كانت أمُّهُ تحاولُ نصيحتَهُ بشتى السبل ، حيث طلبَت مني أن أكُفَّ عن توبيخِهِ دائماً ، و أنها سوف تستلمُ المهمّةَ هي بنفسِها ، فكانت تنصحُه تارةً ، و يعلو صوتُها تارةً أخرى ، و تهددُهُ بالعودة إلى سورية في حال بقي مصرّاً على موقفِه ، و أحياناً كانت تهددهُ بالانتحار ، و كلُّ ذلك لم يُجدِ نفعاً معه ، حيث كان يبررُ في كلِّ مرّةٍ بأنّها حياتُهُ الشخصيةُ و هو حرٌّ في تصرفاتِه ، و علينا أن نتركَهُ ليحيا الحياةَ التي يريدها هو ، و هذا تطورٌ جديدٌ و تصريحاتٌ جديدةٌ ما أدلى بها سابقاً في الجلساتِ التحاوريّةِ معي أو مع أمِّه ، إذ كان في السابقِ ينكرُ الأمرَ بشكلٍ كامل ، أما اليوم فها هو يعترفُ بتناولِهِ المخدراتِ و المشروباتِ الروحية ، و علينا قبولُ ذلك ، و في حال كانَ الأمرُ عالةً علينا فإنه سيغادرُ المنزلَ كي لا يحرجَنا أمام الناس ..

والدتُه أصيبت باليأسِ و استسلمَت للأمرِ الواقع، و لهذا توقفَت عن كل أساليبِها السابقة، ليس هذا فحسب بل بدأت تحاولُ إقناعي أيضاً بأن نتركَهُ و شأنَه، وبأنّ كلَّ الشبابِ يسيرونَ على المنوالِ ذاتِه، خاصةً أولئك الذين وصلوا حديثاً إلى أوروبا، وراحت تضربُ لي أمثلةً على ذلك، فابنُ فلانٍ يتناولُ السجائر، وابنُ فلانٍ يتناولُ العقاقيرَ المخدّرة، وابنُ فلانٍ تزورُهُ عشيقتُهُ في عُقرِ بيتِهِ على مرأى من أبيهِ و أمّهِ و بموافقتِهم أيضاً ، وكأنهُ أقنعَها أو أنها تحاولُ إقناعَ نفسِها بعد نفادِ كافةِ الأساليب من يدِها ، الأمرُ الذي كان يُحدِث خلافاً بيني وبينها في كلِّ مرة ، وذلك عندما تطالبُني بعدم إزعاج ابنِها الوحيد، و تقولُ لي إنّ الحشيشَ هو أمرٌ طبيعيٌّ هنا في هولندا، حالُهُ من حالِ التدخين ..

لم أتفاعلْ أبداً مع هذه المحاضراتِ التي كانت تلقيها زوجتي عليَّ كُلّ مساء، وبقيتُ أستغلُّ أيَّ لقاءٍ بيني وبينه لتقديمِ النصحِ عبثاً، فصارَ يقلّل من تواجدِهِ معنا في البيت تَجَنّباً للحديثِ معي، إلى أن صرتُ مثل زوجتي لا أكترث به، أنظرُ إليهِ في كلِّ يومٍ وأموتُ حسرةً عليه، فولدي الوحيد يموتُ أمامي ولا أستطيعُ فعلَ أي أمر..

لُبُّ المشكلةِ حصلَ عندما جئتُ إلى المنزلِ ذاتَ مرة، فوجدتُهُ مع أمِّهِ في المنزل، وإلى جوارِهِ فتاةٌ عمرُها ما يقاربُ عشرينَ سنة، تكبرُهُ بعامٍ ونصف تقريباً، شديدةُ الجمال، ترتدي لباساً سافراً فاضحاً، وتتكلمُ اللغةَ الهولندية، ولدى دخولي عليهم، سارعَت هذه الفتاةُ إلى استيعابِ دهشتي وبادرَت إلى التحيةِ والابتسامة، فرددتُ عليها التحيةَ وسألتُها من أنتِ؟ فقالت أنا صديقةُ ابنِكَ جهاد، ومدّتْ يدَها لنتصافحَ مصافحةً باردةً إلى أبعدِ الحدود..

الموقفُ كان في بدايتِهِ مربكاً لي، لكنّ الأمرَّ الأشدَّ غرابةً بالنسبةِ لي هو رضا زوجتي بما يجري، واستقبالُها لهم وكأن شيئاً لم يحدث، بل إنها تعدُّ لهم القهوةَ والضيافة، وتُبادلُهم الابتساماتِ وتحاولُ الحديثَ مع الفتاةِ بِلُغتِها الهولنديةِ الهشّة.. استدعيتُ ابني إلى غرفةٍ أخرى منفرداً، وطلبتُ منه توضيحاتٍ حول ما يجري في هذه الساعة هنا، فقال لي: إنها صديقتي وأحبَّتْ هي أن تتعرفَ عليكم، وإذا كان الأمرُ مزعجاً لكم فسوف نغادرُ الآن ...

يا لِهولِ المصيبة!! هل من المعقولِ أننا وصلنا إلى هذه الدرجةِ من الانحلالِ نحن القادمينَ من مجتمعٍ شرقيٍّ محافظ؟!! هل سأقبلُ أم أرفضُ هذه القضيةَ الجديدةَ التي جاء بها ولدي إلى صدرِ المنزل؟!! لا لن أقبل، ولأنه كذلك يتوجّبُ عليَّ أن أتصرفَ الآنَ وبشكلٍ عاجل على الفور..

ضربتُه مباشرةً، وطرحتُه أرضاً وبدأت أدوسُ عليه بأقدامي، وكلما حاولَ النهوضَ كنت أدفعُهُ من جديدٍ ليسقط، وأتابعُ الدعسَ عليه في مشهدٍ مُهينٍ للغايةِ له ولصديقتِه، كان ضعيفَ المواجهةِ لا يقوى على النهوضِ بسببِ تناولِهِ المُكثّفِ للمخدرات التي سحبَت منه قوّتَه، حيث كنتُ أتوقّعُ أنني أقوى عليهِ باعتبارِهِ في مُقتبَل الشباب، وأنا الذي ملأ الشيبُ رأسي وبلغتُ الخمسين من العمر..

مشهدٌ مُقزّز للغاية، أن يتنازلَ الأبُ وابنُهُ في أركانِ المنزل.. والدتُهُ وصديقتُهُ حاولتا إبعادي عنهُ فلم تستطيعا، وأختُهُ الصغرى راحت تختبئُ في زوايا المنزلِ بعيداً عن هذا الواقعِ المريرِ الذي لا أدري كيف ستتعايشُ معهُ مستقبلاً..

بدأ الدمُ ينزفُ من أنفِهِ وفمِهِ بعد أن أشبعتَهُ ركلاً وضرباً، ثمّ بدأ يستغيثُ ويطلبُ من صديقتِهِ أن تتصلَ بالشرطة، وهذا ما حصل..

ما هي إلا دقائقُ وكنت مُكبّلَ اليدينِ والدماءُ تملأ الغرفةَ التي تحوّلَت إلى ساحةِ مواجهةٍ بيني و بين ولدي، في سابقةٍ هي الأولى من نوعِها..

 كانت دموعُ زوجتي تغمرُ المشهدَ برمَّتِه، وهناك في المخفر أعطاني اللهُ شجاعةَ التحدثِ وأطلقَ لساني وقلتٌ لهم بلسانٍ طلقٍ بلا خوفٍ أو فَزع: إنّ هذا البيتَ هو بيتي ولن أسمحَ له بمثلِ هذه التصرفات، نحن مسلمون وشرقيّون ويُمنعُ منعاً باتاً عليه أن يخترقَ مبادئَ دينِنا وعاداتِنا ومبادئَنا التي نشأنا عليها، وإذا أرادَ غيرَ ذلك فعليهِ مغادرةُ المنزلِ فوراً، فقالت لي الشرطة: نحن أسعفناهُ إلى المشفى وهو أيضاً يريدُ مغادرةَ المنزل، وسوف نعرضُكَ على القاضي وهو الذي سيحكم بينكما..

القاضي بعدَ ثلاثةِ أيامٍ من اعتقالي حَكَم عليَّ بالسجنِ شهرين، ودفعِ غرامةٍ ماليةٍ قَدْرُها أربعةُ آلافِ يورو، تعويضاً للضررِ الحاصلِ نتيجةَ العراكِ الذي حصل، لكنّ ولدي البارَّ جداً تنازلَ عن حقِّهِ في الدعوة، مقابلَ أن يخرجَ من المنزلِ خروجاً هادئاً وألا أبحثَ عنه وأزعجَهُ وأتعرّضَ له، وهذا ما وقّعتُ عليه عندما خرجتُ من السجنِ بعد شهرين، حيث تعهّدتُ ورقيّاً وخطّياً وشفهيّاً بأنني لن أتعرّضَ له على الإطلاق..

خرجتُ بعد شهرين، فوجدتُ زوجتي في حالةٍ يُرثى لها، وسيرتُنا على كل لسانٍ في المدينةٍ عرباً وهولنديينَ وأجانب، وبالفعل غادر ولدي المنزلَ واستقرّ مع صديقتِهِ في منزلٍ آخرَ بعيداً عنا، باستثناء بعض الاتصالات بينه وبين أمه التي قبلَتْ بالأمر الواقع أو تقبّلته أو حاولت الاستسلامَ والرضوخَ له، أما أنا فما قبلْتُ ولن أقبل..

خسرتُ ابني الوحيد أخي الكريم في هذه الغربة، اِلْتهمَهُ هذا المجتمع المتفكك المُنْحَلّ، وكم كنت أخجلُ من أهلي وأصدقائي سواءً في سورية أم في بلدانٍ أخرى، عندما كانوا يسمعونَ بالقصةِ ويتصلونَ للاطمئنانِ علينا..

لسنا بخير، وهذه هي رسالتي للقارئين، فأولادُنا في مهبِّ الريح وقِسْمٌ كبيرٌ منهم ستأكلُهُ النيرانُ ذاتُها التي أكلَت ولدي، لأنّ القانونَ يجرّمُ قمْعَ الأولاد، وبالتالي لا حيلةَ لأولياءِ الأمور، سوى الدعاءِ للهِ عز وجلّ بأن يحفظَ لهم أولادَهم من الشرورِ والتهلكة، وإلا فسوفَ يراقبونَ من بعيدٍ انهيارَ دولةِ أبنائهم..

الوسوم

رابط مختصر : https://actionpal.org.uk/ar/post/15543