map
RSS instagram youtube twitter facebook Google Paly App stores

عدد الضحايا

حتى اليوم

4256

بودكاست قصة من المخيم بعنوان "أبو زهير وليلةُ الانشقاقِ عن جيشِ التحرير الفلسطيني (2)

تاريخ النشر : 20-08-2021
بودكاست قصة من المخيم بعنوان "أبو زهير وليلةُ الانشقاقِ عن جيشِ التحرير الفلسطيني (2)

خاص|| مجموعة العمل – لندن

وصلنا في الحلقةِ الماضيةِ مع أبي زهير إلى قرارِهِ الصعب، بضرورةِ الانشقاقِ عن جيشِ التحريرِ الفلسطيني، وذلك بعدما أصبح البقاءُ ضمن صفوفِهِ عبئاً ثقيلاً عليه، حيث يقول أبو زهير في الحلقةِ الثانيةِ من مشاركتِهِ معنا:" لم تكن المخاطرُ محفوفةً بي فحسب، بل على أسرتي بالكامل، لذلك كان لِزَاماً عليّ أنْ أسعى إلى وضعِهم في المكانِ الآمنِ قبل أن أخطوَ أيَّ خطوة، أمي و إخوتي الصغار، أمّا شقيقي الأكبر الذي كان مدرّساً لمادةِ الرياضيات فقد سبقني إلى الرحيل، حيث حطت به السبلُ في النمسا قبل انشقاقي بشهرين، وهذا ما سهّل عليّ المهمّة، بالإضافةِ إلى سيطرةِ الجيشِ الحُر على أغلبِ النقاطِ الحدودية مع الأردن في ريفِ درعا الغربي، ممّا سهّل على الناس حركةَ العبورِ إلى الأردن، حيث شهدَت تلك الفترةُ هجرةً جماعيةً نحو مخيماتِ الأردن هرباً من القصفِ الشديدِ الذي كان يطالُ المناطقَ التي تسقطُ بأيدي الثوّارِ واحدةً تلوى الأخرى، و بعد عدةِ مشاوراتٍ مع والدتي تمكّنتُ من إقناعِها بضرورةِ الهجرةِ إلى الأردن رغم معارضتِها للفكرةِ في طليعةِ الأمر، بسبب الأوضاعِ المعيشيّةِ الصعبةِ التي كان الناسُ يعانون منها هناك، خاصةً في مخيم الزعتري الحدودي، ولهذا كانت تتساءلُ كثيراً عن مصدرِ رزقِنا هناك، لأنني مُعِيلُهم الوحيد، لكنني أخبرتُها أنّنا سوف نستعينُ بأخي الذي تعهّد بذلك على أن أتكفّل أنا بنفقاتي الشخصية، في حين يتحمّلُ هوَ نفقاتِ العائلة، وهنا بدأت عمليةُ التنفيذِ على أرضِ الواقع من خلال عدةِ مراحل .. المرحلة الأولى كانت في تأمينِ الشخصِ الذي سوف يوصلُني إلى الأردن، وقد تولّى خالي هذه المهمّةَ باعتباري موجوداً في لواءِ القادسيةِ في السويداء ولا أستطيعُ الوصولَ إلى مدينةِ درعا دائماً، ولسوءِ حظي تمّ توقّفُ باصِ المبيتِ الذي ينقلُنا إلى درعا آنذاك، بسبب تدهورِ الأوضاعِ الأمنيّةِ على طريقِ السفر، وارتفاعِ حالاتِ الخطفِ والقتلِ في صفوفِ العسكريين، وأصبحَ التنقلُ عبرَ وسائلِ النقلِ العام من أصعبِ الأمورِ في ذلك الوقت، ولهذا اتفقتُ مع خالي أنْ يخبرَني من خلال الجوّال في حال تمّ تأمينِ رجلِ التهريب، على أنْ يقولَ لي أنّ أمي مريضةٌ وهي تنتظرُني، وبدوري أعرفُ أنّ هذه العبارةَ تعني أنّ الطريقَ أصبحَ سالكاً لي بين مدينةِ درعا والأردن ..

وصلَ أهلي إلى الأردن بالسلامةِ وكانت هذه الخطوةُ إنجازاً رقم واحد في ذلك الوقت، وشكّلَ هذا الخبرُ ارتياحاً كبيراً لي، وبقيت المهمّةُ الصعبةُ في تأمينِ الحصولِ على إجازةٍ لمدةِ 24 ساعة، والتي كانت تُسمّى ( انهاريّة )  بلغةِ العسكر، إذ أنّ الإجازاتِ مُنِعَت علينا منعاً باتاً وأصبحَ الحصولُ عليها ضرباً من المستحيل ..

كثيراً ماحاولتُ أن أحصلَ على إذنٍ من الضابطِ المسؤولِ عنّي بشكلٍ مباشر، لكنّهُ كان يرفضُ في كل مرّة، ثم حاولتُ إغراءَهُ بالمال، لكنّهُ أصرّ على الرفض، بسبب وجودِ تعليماتٍ من هيئةِ أركانِ جيشِ التحريرِ الفلسطيني بعدمِ السماحِ لأيّ عسكريٍّ في لواءِ القادسيّةِ بالمغادرةِ تحتَ أيّ عذرٍ كان، الأمر الذي صعّبَ عليّ المهمّة، لاسيّما أنه تمّت زيادةُ نقاطِ الحراسةِ حول القطعةِ العسكريةِ وأصبحَ الهروبُ خَطِراً للغايةِ بعدما كان سهلاً قبل خطوةِ التشديدِ هذه، فَلِواءُ القادسيةِ مُحَاذٍ تماماً للطريقِ الرئيسيّ ..

كانت والدتي قلقةً عليّ للغاية، ولم يكن هناك تواصلٌ مباشرٌ بيننا لأنها كانت تملكُ رقماً أردنيّاً لا أستطيعُ التواصلَ معه أبداً، لأنّ وجودَ مثلَ هذه الأرقامِ على الهاتفِ هو جريمةٌ بحدّ ذاتِها، لأنّ المعارضةَ السوريةَ كانت تستخدمُ أرقاماً أردنيةً للتواصلِ فيما بينها في درعا منعاً لِتَجسّسِ الأمنِ السوريِّ عليها، ثم إنني لم أكن قد أخبرتُ أحداً بوصولِ عائلتي إلى الأردن تجنّباً للشُّبهات، ولهذا كان التواصلُ يتمّ عن طريقِ خالي فقط..

مرحلةٌ صعبةٌ للغايةِ لا أستطيعُ وصفَها لك، فالعائلةُ تشرّدت، وحياتي في خطر، والوضع الأمنيُّ متدهورٌ جداً، والتفكيرُ متواصلٌ ليلَ نهار.. ماذا أفعل؟ كيف سأنجو بنفسي هذه المرة؟؟ وماهي خاتمةُ هذه القصة؟؟

سلسةُ التفكيرِ هذه قطعَها اتصالٌ حاسمٌ من خالي أخبرَني فيه أنّ أمي مريضةٌ وهي تنتظرُ قدومي خلال عشرةِ أيام.. عرفتُ أنّ طريقي نحو الأردن أصبحَ سالكاً، ولكنْ.. كيف لي الوصولُ إلى خالي وأنا الممنوعُ من مغادرةِ الثكنةِ العسكريةِ، والحرسُ المسلّحُ يحيطُ بها من كل مكان؟؟

هرعتُ إلى الضابطِ متظاهراً بالبكاءِ لعلني أستعطفُهُ وأخبرتُهُ أنّ أمّي مريضةٌ وهي وحيدةٌ على فراشِ المرض، ولابد من رؤيتِها، وطلبتُ منها إجازةً لمدةِ يومٍ واحد، لكنه رفض.. تابعتُ التوسّلَ إليه لكنه رفض ثانيةً وثالثة إلى أن استشاطَ غضباً وتلفّظَ بألفاظٍ كُفريّةٍ نابية، وطردني من الغرفةِ على مرأى الجميع ومَسمعِهم..

غادرتُ غرفتَهُ مرتجفاً فاستوقفني زميلي وهو أحدُ أبناءِ مخيمِ درعا، له عليّ فضلٌ كبيرٌ بعد فضلِ الله، وقال لي سراً:" انتبه.. إصرارُكَ على الحصول على إجازةٍ لمدةِ يومٍ واحدٍ فقط مثير للشك، وهو تهمةٌ لك بإضمارِ نيّةِ الانشقاقِ والهروب، لذلك لا تطالب بها مُجدّداً، ونصيحتي لك أنْ تنسى هذا الأمرَ إذا كنت فعلاً تريد الذهابَ ثم العودةَ إلى الثكنة، أمّا إذا كنت تنوي شيئاً آخر فدعنا نخطّط معاً لأنني أنوي الهروب..

فاجأني كلامُهُ وانتابني الشكُّ للوهلةِ الأولى رغم علاقتي القويةِ به، فهو صديقُ الدراسة، وجارٌ لي، وتربطُني به علاقةٌ وثيقة..

وعلى الفورِ قلتُ له بعد أن بدّدْتُ حبالَ الشكِّ بيننا: نعم أريدُ الهروب، فقال لي: يا مجنون، مالك والضابط؟!! علاقتُكَ مع رئيسِ الحرس، هو الذي يفسحُ لك المجالَ للهروبِ مقابل مبلغٍ ماليّ، فقلت له: لكنه أمرٌ خطيرٌ جداً، فكيفَ سوف نصلُ إلى درعا في حال تمكنّا من الهروبِ كما تزعم، وليس لدينا ورقةُ الإجازة، ودورياتُ الأمنِ تملأ شوارعَ السويداء؟؟ ماذا سنقولُ لهم لو استوقفونا؟؟ فقالَ لي سنأخذ طريقَ التهريبِ أيضاً من السويداء حتى ريف درعا الغربي، فأنا أعرفُ شخصاً يستطيعُ إيصالَنا مقابل المال..

و في الصباحِ توجّهنا إلى رئيس الحرس وتمّ الاتفاق معنا على تهريبِنا خارج الثكنةِ مقابلَ خمسينَ ألف ليرةٍ، في حين اتفق صديقي مع شخصٍ آخر ليستلمَنا على بُعد كيلو متر وينقلَنا عبر طرقِ التهريبِ نحو درعا، ولا أبالغُ لو قلتُ لك إنّ تلك الليلةَ كانت هي الأصعبَ في حياتي كُلِّها، لا أنساها ما حييت، حين ارتدينا اللباس المدني تحت البزّةِ العسكريّةِ، وغادرنا نقطةَ الحرس باتجاه الطريق الرئيسي، وسجدتُ للهِ شكراً على توفيقِهِ لنا بالعبور، ثم نزعنا اللباسَ العسكريَّ ورميناهُ عند الساترِ الترابيِّ ورحنا نحثّ الخُطا باللباسِ المدنيِّ خائفينَ ومذعورينَ لدرجةِ احتباسِ الأنفاس، فوصلنا إلى النقطةِ المتفقِ عليها وجاءت سيارةٌ مُفيّمةٌ فصعدنا فيها وسلكنا طريقاً ترابيّاً مُرعباً وحولنا أشخاصٌ ملثّمونَ صوّبوا بنادقهم على النوافذ وطلبوا منا أن نصمتَ صمتاً مُطبِقاً، في حين كانت السيارةُ تتأرجحُ على الطريقِ الترابيّ، وكأنها قاربٌ مطّاطيٌّ تتلاعبُ فيه الأمواج، وصديقي إلى جانبي مرتجفٌ وخائفٌ جداً ..

توقّفَت السيارةُ في مكانٍ مجهولٍ وطُلِبَ أنْ نجتازَ طريقاً للسيارات ركضاً وبسرعةٍ هائلة، حيث كانت تنتظرُنا سيارةٌ أخرى على الطرفِ المقابل، وما إن اجتزنا الشارعَ حتى التقتنا تلك السيارةُ لِتُتابعَ المسيرَ بنا في تلك الليلةِ المُضْنِية..

هاتفتُ خالي كي يلتقيَ بنا في ريف درعا الغربي حيث ستتوقف السيارةُ بنا، وذلك لإعطائي المال الذي كنتُ قد تركتُهُ معه، والتقينا في داعل جميعاً ، أنا وخالي وصديقي ورجلُ التهريب الذي أخذ حصّتَهُ من المال، في حين كان هاتفي يغصّ بالاتصالات من الضابط المسؤول عني بعدما انكشف غيابي هناك، وبدأت رسائلُ التهديدِ والوعيدِ تأتيني من قِبَلِه، في حين أنني تجاهلتُ كلَّ هذي الاتصالات، وسارعتُ إلى الاتصالِ بوالدتي كي أُطَمْئِنَها عن وصولي إلى مزارعِ داعل، ومن هناك عبرنا إلى طفس فالمزيريب فتل شهاب وصولاً إلى النقاط الحدودية، وهناك عبرنا إلى الداخل الأردنيّ خلال أقل من أربعٍ وعشرين ساعة من مغادرتِنا السويداء، فاستوقفنا حرسُ الحدودِ للتحقيقِ معنا على اعتبارِ أننا عسكريون منشقّون، حيث كان هناك مخيمٌ حدوديٌّ خاصٌّ بالمنشقين، لبثتُ فيه أسبوعاً كاملاً ثم غادرته لألتقي مع أمي وإخوتي الصغار لتنتهي مأساتُنا الكبيرةُ التي تمكّنتُ من اجتيازِها دونَ أنْ أتورّطَ بقطرةِ دمٍ واحدة ..

تلك هي رحلةُ الانشقاقِ التي لن أنساها أبداً، لأنها استمرت حتى بعد وصولي إلى الأردن، لأنني اضطررتُ بعد ثلاثةِ سنواتٍ إلى العودةِ إلى سورية لأعبرَ إلى تركيا برفقةِ عائلتي في رحلةٍ أخرى ومشاهدَ أخرى أيضاً تدخلُ في فهرسِ المشقّاتِ التي كابدناها كعسكريّينَ فلسطينيينَ مقيمينَ في سورية، لعلّني أوفّقُ لاحقاً وفي مشاركاتٍ قادمةٍ من التحدثِ عنها، فرقعةُ النظامِ السوريِّ آنذاك كانت ضحلةً للغاية، وهذا ما سهّل علينا بعض المصاعب..

أختمُ مشاركتي بالقول: ليس العسكريونَ الفلسطينيونَ في جيشِ التحريرِ كلُّهم راضِين عن بنادقِهم، بل أغلبُهم مغلوبونَ على أمرِهم، وهم بين فَكّي كمّاشة، يتربّصونَ الفرصةَ المناسبةَ للخلَاص.. الخلَاص الذي يأمنونَ من خلالِه على أنفسِهم وأهلِيهم من بطشِ النظامِ السوريِّ الذي لم يفرّق في ظُلمِه بين سوريٍّ وفلسطينيٍّ في يومٍ من الأيام..

الوسوم

رابط مختصر : https://actionpal.org.uk/ar/post/15902

خاص|| مجموعة العمل – لندن

وصلنا في الحلقةِ الماضيةِ مع أبي زهير إلى قرارِهِ الصعب، بضرورةِ الانشقاقِ عن جيشِ التحريرِ الفلسطيني، وذلك بعدما أصبح البقاءُ ضمن صفوفِهِ عبئاً ثقيلاً عليه، حيث يقول أبو زهير في الحلقةِ الثانيةِ من مشاركتِهِ معنا:" لم تكن المخاطرُ محفوفةً بي فحسب، بل على أسرتي بالكامل، لذلك كان لِزَاماً عليّ أنْ أسعى إلى وضعِهم في المكانِ الآمنِ قبل أن أخطوَ أيَّ خطوة، أمي و إخوتي الصغار، أمّا شقيقي الأكبر الذي كان مدرّساً لمادةِ الرياضيات فقد سبقني إلى الرحيل، حيث حطت به السبلُ في النمسا قبل انشقاقي بشهرين، وهذا ما سهّل عليّ المهمّة، بالإضافةِ إلى سيطرةِ الجيشِ الحُر على أغلبِ النقاطِ الحدودية مع الأردن في ريفِ درعا الغربي، ممّا سهّل على الناس حركةَ العبورِ إلى الأردن، حيث شهدَت تلك الفترةُ هجرةً جماعيةً نحو مخيماتِ الأردن هرباً من القصفِ الشديدِ الذي كان يطالُ المناطقَ التي تسقطُ بأيدي الثوّارِ واحدةً تلوى الأخرى، و بعد عدةِ مشاوراتٍ مع والدتي تمكّنتُ من إقناعِها بضرورةِ الهجرةِ إلى الأردن رغم معارضتِها للفكرةِ في طليعةِ الأمر، بسبب الأوضاعِ المعيشيّةِ الصعبةِ التي كان الناسُ يعانون منها هناك، خاصةً في مخيم الزعتري الحدودي، ولهذا كانت تتساءلُ كثيراً عن مصدرِ رزقِنا هناك، لأنني مُعِيلُهم الوحيد، لكنني أخبرتُها أنّنا سوف نستعينُ بأخي الذي تعهّد بذلك على أن أتكفّل أنا بنفقاتي الشخصية، في حين يتحمّلُ هوَ نفقاتِ العائلة، وهنا بدأت عمليةُ التنفيذِ على أرضِ الواقع من خلال عدةِ مراحل .. المرحلة الأولى كانت في تأمينِ الشخصِ الذي سوف يوصلُني إلى الأردن، وقد تولّى خالي هذه المهمّةَ باعتباري موجوداً في لواءِ القادسيةِ في السويداء ولا أستطيعُ الوصولَ إلى مدينةِ درعا دائماً، ولسوءِ حظي تمّ توقّفُ باصِ المبيتِ الذي ينقلُنا إلى درعا آنذاك، بسبب تدهورِ الأوضاعِ الأمنيّةِ على طريقِ السفر، وارتفاعِ حالاتِ الخطفِ والقتلِ في صفوفِ العسكريين، وأصبحَ التنقلُ عبرَ وسائلِ النقلِ العام من أصعبِ الأمورِ في ذلك الوقت، ولهذا اتفقتُ مع خالي أنْ يخبرَني من خلال الجوّال في حال تمّ تأمينِ رجلِ التهريب، على أنْ يقولَ لي أنّ أمي مريضةٌ وهي تنتظرُني، وبدوري أعرفُ أنّ هذه العبارةَ تعني أنّ الطريقَ أصبحَ سالكاً لي بين مدينةِ درعا والأردن ..

وصلَ أهلي إلى الأردن بالسلامةِ وكانت هذه الخطوةُ إنجازاً رقم واحد في ذلك الوقت، وشكّلَ هذا الخبرُ ارتياحاً كبيراً لي، وبقيت المهمّةُ الصعبةُ في تأمينِ الحصولِ على إجازةٍ لمدةِ 24 ساعة، والتي كانت تُسمّى ( انهاريّة )  بلغةِ العسكر، إذ أنّ الإجازاتِ مُنِعَت علينا منعاً باتاً وأصبحَ الحصولُ عليها ضرباً من المستحيل ..

كثيراً ماحاولتُ أن أحصلَ على إذنٍ من الضابطِ المسؤولِ عنّي بشكلٍ مباشر، لكنّهُ كان يرفضُ في كل مرّة، ثم حاولتُ إغراءَهُ بالمال، لكنّهُ أصرّ على الرفض، بسبب وجودِ تعليماتٍ من هيئةِ أركانِ جيشِ التحريرِ الفلسطيني بعدمِ السماحِ لأيّ عسكريٍّ في لواءِ القادسيّةِ بالمغادرةِ تحتَ أيّ عذرٍ كان، الأمر الذي صعّبَ عليّ المهمّة، لاسيّما أنه تمّت زيادةُ نقاطِ الحراسةِ حول القطعةِ العسكريةِ وأصبحَ الهروبُ خَطِراً للغايةِ بعدما كان سهلاً قبل خطوةِ التشديدِ هذه، فَلِواءُ القادسيةِ مُحَاذٍ تماماً للطريقِ الرئيسيّ ..

كانت والدتي قلقةً عليّ للغاية، ولم يكن هناك تواصلٌ مباشرٌ بيننا لأنها كانت تملكُ رقماً أردنيّاً لا أستطيعُ التواصلَ معه أبداً، لأنّ وجودَ مثلَ هذه الأرقامِ على الهاتفِ هو جريمةٌ بحدّ ذاتِها، لأنّ المعارضةَ السوريةَ كانت تستخدمُ أرقاماً أردنيةً للتواصلِ فيما بينها في درعا منعاً لِتَجسّسِ الأمنِ السوريِّ عليها، ثم إنني لم أكن قد أخبرتُ أحداً بوصولِ عائلتي إلى الأردن تجنّباً للشُّبهات، ولهذا كان التواصلُ يتمّ عن طريقِ خالي فقط..

مرحلةٌ صعبةٌ للغايةِ لا أستطيعُ وصفَها لك، فالعائلةُ تشرّدت، وحياتي في خطر، والوضع الأمنيُّ متدهورٌ جداً، والتفكيرُ متواصلٌ ليلَ نهار.. ماذا أفعل؟ كيف سأنجو بنفسي هذه المرة؟؟ وماهي خاتمةُ هذه القصة؟؟

سلسةُ التفكيرِ هذه قطعَها اتصالٌ حاسمٌ من خالي أخبرَني فيه أنّ أمي مريضةٌ وهي تنتظرُ قدومي خلال عشرةِ أيام.. عرفتُ أنّ طريقي نحو الأردن أصبحَ سالكاً، ولكنْ.. كيف لي الوصولُ إلى خالي وأنا الممنوعُ من مغادرةِ الثكنةِ العسكريةِ، والحرسُ المسلّحُ يحيطُ بها من كل مكان؟؟

هرعتُ إلى الضابطِ متظاهراً بالبكاءِ لعلني أستعطفُهُ وأخبرتُهُ أنّ أمّي مريضةٌ وهي وحيدةٌ على فراشِ المرض، ولابد من رؤيتِها، وطلبتُ منها إجازةً لمدةِ يومٍ واحد، لكنه رفض.. تابعتُ التوسّلَ إليه لكنه رفض ثانيةً وثالثة إلى أن استشاطَ غضباً وتلفّظَ بألفاظٍ كُفريّةٍ نابية، وطردني من الغرفةِ على مرأى الجميع ومَسمعِهم..

غادرتُ غرفتَهُ مرتجفاً فاستوقفني زميلي وهو أحدُ أبناءِ مخيمِ درعا، له عليّ فضلٌ كبيرٌ بعد فضلِ الله، وقال لي سراً:" انتبه.. إصرارُكَ على الحصول على إجازةٍ لمدةِ يومٍ واحدٍ فقط مثير للشك، وهو تهمةٌ لك بإضمارِ نيّةِ الانشقاقِ والهروب، لذلك لا تطالب بها مُجدّداً، ونصيحتي لك أنْ تنسى هذا الأمرَ إذا كنت فعلاً تريد الذهابَ ثم العودةَ إلى الثكنة، أمّا إذا كنت تنوي شيئاً آخر فدعنا نخطّط معاً لأنني أنوي الهروب..

فاجأني كلامُهُ وانتابني الشكُّ للوهلةِ الأولى رغم علاقتي القويةِ به، فهو صديقُ الدراسة، وجارٌ لي، وتربطُني به علاقةٌ وثيقة..

وعلى الفورِ قلتُ له بعد أن بدّدْتُ حبالَ الشكِّ بيننا: نعم أريدُ الهروب، فقال لي: يا مجنون، مالك والضابط؟!! علاقتُكَ مع رئيسِ الحرس، هو الذي يفسحُ لك المجالَ للهروبِ مقابل مبلغٍ ماليّ، فقلت له: لكنه أمرٌ خطيرٌ جداً، فكيفَ سوف نصلُ إلى درعا في حال تمكنّا من الهروبِ كما تزعم، وليس لدينا ورقةُ الإجازة، ودورياتُ الأمنِ تملأ شوارعَ السويداء؟؟ ماذا سنقولُ لهم لو استوقفونا؟؟ فقالَ لي سنأخذ طريقَ التهريبِ أيضاً من السويداء حتى ريف درعا الغربي، فأنا أعرفُ شخصاً يستطيعُ إيصالَنا مقابل المال..

و في الصباحِ توجّهنا إلى رئيس الحرس وتمّ الاتفاق معنا على تهريبِنا خارج الثكنةِ مقابلَ خمسينَ ألف ليرةٍ، في حين اتفق صديقي مع شخصٍ آخر ليستلمَنا على بُعد كيلو متر وينقلَنا عبر طرقِ التهريبِ نحو درعا، ولا أبالغُ لو قلتُ لك إنّ تلك الليلةَ كانت هي الأصعبَ في حياتي كُلِّها، لا أنساها ما حييت، حين ارتدينا اللباس المدني تحت البزّةِ العسكريّةِ، وغادرنا نقطةَ الحرس باتجاه الطريق الرئيسي، وسجدتُ للهِ شكراً على توفيقِهِ لنا بالعبور، ثم نزعنا اللباسَ العسكريَّ ورميناهُ عند الساترِ الترابيِّ ورحنا نحثّ الخُطا باللباسِ المدنيِّ خائفينَ ومذعورينَ لدرجةِ احتباسِ الأنفاس، فوصلنا إلى النقطةِ المتفقِ عليها وجاءت سيارةٌ مُفيّمةٌ فصعدنا فيها وسلكنا طريقاً ترابيّاً مُرعباً وحولنا أشخاصٌ ملثّمونَ صوّبوا بنادقهم على النوافذ وطلبوا منا أن نصمتَ صمتاً مُطبِقاً، في حين كانت السيارةُ تتأرجحُ على الطريقِ الترابيّ، وكأنها قاربٌ مطّاطيٌّ تتلاعبُ فيه الأمواج، وصديقي إلى جانبي مرتجفٌ وخائفٌ جداً ..

توقّفَت السيارةُ في مكانٍ مجهولٍ وطُلِبَ أنْ نجتازَ طريقاً للسيارات ركضاً وبسرعةٍ هائلة، حيث كانت تنتظرُنا سيارةٌ أخرى على الطرفِ المقابل، وما إن اجتزنا الشارعَ حتى التقتنا تلك السيارةُ لِتُتابعَ المسيرَ بنا في تلك الليلةِ المُضْنِية..

هاتفتُ خالي كي يلتقيَ بنا في ريف درعا الغربي حيث ستتوقف السيارةُ بنا، وذلك لإعطائي المال الذي كنتُ قد تركتُهُ معه، والتقينا في داعل جميعاً ، أنا وخالي وصديقي ورجلُ التهريب الذي أخذ حصّتَهُ من المال، في حين كان هاتفي يغصّ بالاتصالات من الضابط المسؤول عني بعدما انكشف غيابي هناك، وبدأت رسائلُ التهديدِ والوعيدِ تأتيني من قِبَلِه، في حين أنني تجاهلتُ كلَّ هذي الاتصالات، وسارعتُ إلى الاتصالِ بوالدتي كي أُطَمْئِنَها عن وصولي إلى مزارعِ داعل، ومن هناك عبرنا إلى طفس فالمزيريب فتل شهاب وصولاً إلى النقاط الحدودية، وهناك عبرنا إلى الداخل الأردنيّ خلال أقل من أربعٍ وعشرين ساعة من مغادرتِنا السويداء، فاستوقفنا حرسُ الحدودِ للتحقيقِ معنا على اعتبارِ أننا عسكريون منشقّون، حيث كان هناك مخيمٌ حدوديٌّ خاصٌّ بالمنشقين، لبثتُ فيه أسبوعاً كاملاً ثم غادرته لألتقي مع أمي وإخوتي الصغار لتنتهي مأساتُنا الكبيرةُ التي تمكّنتُ من اجتيازِها دونَ أنْ أتورّطَ بقطرةِ دمٍ واحدة ..

تلك هي رحلةُ الانشقاقِ التي لن أنساها أبداً، لأنها استمرت حتى بعد وصولي إلى الأردن، لأنني اضطررتُ بعد ثلاثةِ سنواتٍ إلى العودةِ إلى سورية لأعبرَ إلى تركيا برفقةِ عائلتي في رحلةٍ أخرى ومشاهدَ أخرى أيضاً تدخلُ في فهرسِ المشقّاتِ التي كابدناها كعسكريّينَ فلسطينيينَ مقيمينَ في سورية، لعلّني أوفّقُ لاحقاً وفي مشاركاتٍ قادمةٍ من التحدثِ عنها، فرقعةُ النظامِ السوريِّ آنذاك كانت ضحلةً للغاية، وهذا ما سهّل علينا بعض المصاعب..

أختمُ مشاركتي بالقول: ليس العسكريونَ الفلسطينيونَ في جيشِ التحريرِ كلُّهم راضِين عن بنادقِهم، بل أغلبُهم مغلوبونَ على أمرِهم، وهم بين فَكّي كمّاشة، يتربّصونَ الفرصةَ المناسبةَ للخلَاص.. الخلَاص الذي يأمنونَ من خلالِه على أنفسِهم وأهلِيهم من بطشِ النظامِ السوريِّ الذي لم يفرّق في ظُلمِه بين سوريٍّ وفلسطينيٍّ في يومٍ من الأيام..

الوسوم

رابط مختصر : https://actionpal.org.uk/ar/post/15902