map
RSS instagram youtube twitter facebook Google Paly App stores

عدد الضحايا

حتى اليوم

4256

بودكاست قصة من المخيم بعنوان "لَحِصارُ قطاعِ غزةَ أحَبُّ إلى قلبي من معتقلاتِهم" (1)

تاريخ النشر : 10-09-2021
بودكاست قصة من المخيم بعنوان "لَحِصارُ قطاعِ غزةَ أحَبُّ إلى قلبي من معتقلاتِهم" (1)

خاص|| مجموعة العمل – لندن

بقعٌ جغرافيةٌ كثيرةٌ وَطِئَها فلسطينيو سورية بحثاً عن الأمانِ الذي فقدوهُ بسبب الحربِ الدائرةِ هناك منذ عشرِ سنوات، فلا تكادُ منطقةٌ تخلو منهم ومن قصصِ معاناتِهم ولجوئهم، فتجدَ الفلسطينيَّ السوريَّ أحياناً في مناطقَ ومُدنٍ فقيرةٍ للغاية، لا طاقةَ لديها لإغاثةِ أهلِها الأصليّين، فكيف تكونُ قادرةً إذن على استيعابِ اللاجئينَ الجُدد الذين ضاقت عليهم الأرضُ بما رحبت..

تلك هي حكايةُ أحمد  لذي استقرت به السبلُ في قطاعِ غزّةَ المحاصر، حيث الحصارُ الخانقُ و قلةُ فرصِ العمل، والاعتداءاتُ الإسرائيليّةُ المتكررةُ بين الفَينةِ والأخرى، وهذا ما جعلَ أحمد يبتسمُ ابتسامةً غريبةً من نوعِها أثناء حديثِه معنا ،وكأنه يريدُ أنْ يقولَ لنا إنّ الناسَ تهاجرُ لتحسينِ وضعِها والوصولِ إلى أحوالٍ أفضل، إلا نحن فقد ساءت أوضاعُنا أكثر، ولكنّنا آمِنونَ على أنفسِنا وهذا هو عزاؤنا في ذلك ، ثم يستطردُ في حديثِه الخاص لمجموعة العمل :" عشنا في سورية على الهامشِ إذا صَحّ التعبير، فلم يكن لدينا تذاكرُ إقامةٍ مؤقتةٍ كسائرِ الفلسطينيينَ في أنحاءِ سورية، على اعتبارِ أننا من غزة، وأبناءُ غزّةَ لا يُمنَحون هذه التذكرةُ في سورية، ولهذا كُنّا مُهمّشينَ في معظمِ الأشياء، وكثيراً ما كُنّا نعاني أثناء إجراءِ أيةِ معاملةٍ في الدوائرِ الرسمية، إلى أنْ جاءت الثورةُ التي اجتاحت البلادَ على حينِ غفلةٍ من أمرِ الجميع ..

دعني أصدُقُكَ القولَ أنني كنتُ في طليعةِ المناصرينَ للثورة، وشاركتُ في أغلبِ المظاهراتِ الشعبية، والجنازاتِ والاعتصامات، ولم أنصت أبداً إلى تلك الأصواتِ التي كانت تطالبُ الفلسطينيينَ باحترامِ الدولةِ المُضيفةِ والتزامِ الحياد، بل هتفتُ للشهداءِ وناديتُ بالتغيير والحرية، وكنتُ في كثيرٍ من الأحيانِ مُتحمّساً للغايةِ أكثر من السوريينَ أنفسِهم..

لم يمضِ وقتٌ طويلٌ على ذلك حتى حدثَت نقطةُ التحوّلِ الكبرى في حياتي، حيث كنتُ أشاركُ في أحدِ الاعتصاماتِ أمام مبنى السرايا الحكومي، وفجأةً داهمتنا قواتُ مكافحةِ الشعبِ وليس الشغب، وتمّ اعتقالي مع مجموعةٍ من المتظاهرين..

كنتُ خائفاً لأنني لا أملكُ تذكرةَ إقامة، وكانت عقوبةُ الغزاويِّ في سورية إذا ما ارتكبَ جُرماً أن يتمّ ترحيلُهُ إلى خارجِ القطر، ولأنّ المشاركةَ في المظاهراتِ كانت جُرماً في نظرِ الحكومةِ السوريةِ فقد أصبحت فرصةُ ترحيلي سانحةً للغاية، لاسيّما أنهم اعتقلوني من قلبِ الاعتصام وهذا يثبّتُ عليّ التهمة ممّا لا يدعُ مجالاً للنكرانِ والشكّ، ولكنْ لِحُسنِ حظّي ولأهميةِ الشخصِ الذي تدخّلَ لإطلاقِ سراحي، لم تدم فترةُ اعتقالي كثيراً، فقد أمضيتُ ما يقاربُ ثلاثةَ شهورٍ تمّ ترحيلي بعدها إلى خارجِ القطر، وخلال فترةِ احتجازي هذه، طفتُ على عددٍ من الأفرعِ الأمنيّةِ التابعةِ للنظام،  وهم يُخوّنونني لأنني أناهضُ حكومتَهم التي دعمَت الشعبَ الفلسطينيَّ ووقفَت إلى جانبِه، ثم استقرت بي السبل في مركزِ احتجازٍ في منطقةِ باب مصلّى بدمشق، خاصٍ بالأجانبِ الحاملينَ لجنسيّاتٍ غيرِ سورية، فكان هناك الفلسطينيُّ والعراقيُّ والمغربيُّ والأفغانيُّ وغيرُهم، ولسنا جميعاً متورّطين بدعمِ الثورة، بل هناك من عليه تهمٌ أخرى خارجَ هذا السياق ..

كانت ظروفُ الاحتجازِ غايةً في الصعوبةِ والمأساة، حيث كانوا في كلِّ يومِ سبتٍ من كلّ أسبوع، يرسلوننا إلى فرعِ الهجرةِ والجوازاتِ في منطقةِ المرجة، من الساعةِ السادسةِ صباحاً حتى الساعةِ الرابعةِ مساءً، يضعوننا خلال هذه الفترةِ في غرفةِ صغيرةٍ مكتظّةٍ جداً، فيها أكثرُ من ثلاثين شخصاً بين شبابٍ ورجالٍ وشيوخٍ مُسنّين، لا يُسمَحُ لنا خلال هذه الفترةِ بالطعامِ أو الخروجِ لقضاءِ الحاجةِ، فيضطرّ البعضُ أحياناً إلى التبوّلِ في ثبابِه، ممّا جعلَ رائحةَ الغرفةِ قاتلةً ولا تُطاقُ أبداً، والويلُ الويلُ لكلِّ من تسوّلُ له نفسُهُ أن يطلبَ الخروجَ أو يطلبَ طعاماً أو شيئاً من هذا القبيل، لأنّ لعناتِهم وشتائمَهم وضرباتِهم سوف تنهالُ عليه من كلّ حدبٍ وصوب، وهذا ما كان يدفعُ الأغلبيةَ إلى تحمّلِ أعباءِ الاحتجاز ، حيث كنا شهوداً على رجلٍ مغربيٍّ بلغَ من العمرِ عتيّاً، ماتَ بيننا بسببِ الإهمالِ وعدمِ الاكتراثِ والظروفِ الصحيّةِ السيّئةِ داخل المعتقل ..

وعندما جاء دوري في الاستدعاءِ والتحقيق، أخبروني أنه تمّ اتخاذُ القرارِ بترحيلي إلى خارجِ القطر من قبلِ المسؤولِ البعثيّ هشام بختيار، ولا مجالَ أمامي أبداً سوى اختيار واحدةٍ من الدولِ التي سوف تكونُ مطروحةً على الطاولة، وهذا كلُّهُ ولديَّ (واسطة) تدخّلَت من أجلي، فكيف هو الحالُ بمن يُترَكُ وحيداً بين أنيابِهم؟؟ بالتأكيد سوف ينالُ المصيرَ ذاتَهُ الذي نالَهُ ذلك الشيخُ المغربيُّ عندما سُحِبت جُثّتُهُ من قبلِ جنودِهم ببرودةِ أعصابٍ، وكأنّ شيئاً لم يحدث أبداً..

خيّروني بين أندونسيا أو ماليزيا أو السودان، ولكنني وبفضلِ اللهِ كنتُ ثابتاً في ردّي عليهم بعد كلّ مرة، إمّا العودةُ إلى منزلي في المخيم أو إرجاعي إلى قطاعِ غزةَ مسقطِ رأسي ووطني الأمّ، وكانوا يقولونَ لي بعدَ كلّ مرة" لا نستطيعُ إيصالَك إلى هناك، فلا يوجد مطارٌ قيد العملِ هناك، وليس لدينا تواصلٌ بهذا الخصوصِ مع السلطةِ الحاكمةِ في غزة، ولكنني بقيتُ مصرّاً على رأيي، إلى أن قالوا لي :" نحن نرسلُك إلى مصر ومن هناك لا علاقةَ لنا بك، ربّما يستطيعون إدخالَكَ إلى قطاع غزةَ وربما لا يستطيعون، وفي حالِ عدمِ الاستطاعةِ إياك أن تفكّرَ بالرجوعِ إلى هنا في حال ضغطَت عليك السلطاتُ المصرية، لأنّك سوف تُقادُ إلى فرعِ فلسطين ولن ترى النورَ طيلةَ فترةِ حياتِكَ في حال بقيتَ على قيدِ الحياةِ طبعاً ، وإياك أيضاً أن تخبرَ السلطاتِ هناك بما رأيتَهُ أو تعرّضتَ له خلال فترةِ احتجازِكَ عندنا، فسوف ننتقمُ من أسرتِكَ وقتَها، ونحيطُكَ علماً أننا نتواصلُ مع كافةِ الأطرافِ لمعرفةِ ما يقولُهُ أمثالُكَ خارجَ القطر ..

وافقتُ على هذا الطرحِ وحاولتُ أن أقنعَهم برؤيةِ أسرتي قبل الترحيلِ لكنهم رفضوا، وباشروا على الفور بالإجراءاتِ اللازمة، و تمّ اقتيادي من باب مصلى مباشرةً إلى مطارِ دمشق الدولي، لتكونَ تلك اللحظاتُ آخرَ حُصّتي في سورية التي لي فيها ذكرياتٌ لا تُنسَى، طفولةٌ بين أزقّةِ المخيمات، أصدقاءٌ فرّقتهم الحربُ داخل القطرِ وخارجه، شقاوةٌ جميلةٌ رغم شدّتِها، ويطولُ شريطُ الذاكرةِ أكثرَ من مسافةِ الطريق المؤدّيةِ إلى المطار، حيث وجدتُ نفسي أُطرَدُ كما يُطرَدُ المجرمون وتُجّارُ المخدّرات، من بلدٍ ربما نملكُ فيه أكثرَ ممّا يملكُه هؤلاء الذين يشرفون على طردي، لا ذنبَ لي سوى أنني أنتمي لغزةَ العِزّة، مُهجةُ الروحِ ونبضُ الفؤاد .. اختلطت عليّ المشاعرُ آنذاك بين حزنٍ لأنني أغادرُ بلداً عزيزاً على قلوبِنا ومخيّماً له في ذاكرتِنا مساحةٌ كبيرةٌ تأبى النسيانَ والزوال، وسرورٍ لأنني سأرى غزةَ للمرةِ الأولى رغمَ صعوبةِ الحياةِ هناك، لأنني كنتُ على درايةٍ بالواقعِ الصعبِ الذي يعيشُه الناسُ هناك بسبب الحصارِ المفروضِ عليهم.. فكيف ستكونُ حياتي الجديدة؟!! ومن أين أبدأ؟؟ وماذا تراني فاعلاً أمام كل هذه التحدياتِ والصعوبات؟؟

سلسلةٌ من التساؤلاتِ انهالت عليّ في مطارِ دمشق، قطَعَها هديرُ الطائرةِ المتوجّهةِ إلى القاهرة، لأصعَدَ إليها مرتجفاً خائفاً من المرحلةِ الجديدةِ المقبلة..

هبطت الطائرةُ في مطارِ القاهرة، وتم اقتيادي إلى غرفةِ التحقيقِ هناك، وبدأ مسلسلٌ آخرُ هناك، بمحاولةِ إقناعي بالعودةِ إلى سورية لأنّني لا أملكُ وثيقةً تخوّلُني بالدخولِ إلى قطاعِ غزة، كما أنهم حاولوا الالتفافَ على قراري بالقول إنهم سوف يتوسّطون لدى السلطاتِ السوريةِ كي لا يتعرّضونَ لي بالاعتقالِ والأذى، ولكنّني بقيتُ مصرّاً على ضرورةِ إدخالي إلى قطاعِ غزةَ لأنني على يقينٍ تامٍ أنّ العودةَ تعني لي الانتحار مرةً أخرى، فكيف يمكنُ لشخصٍ أُفلِتَ من أيدي هؤلاء أنْ يعودَ إليهم مرةً أخرى.. لَحِصارُ قطاعِ غزّةَ وقلّةُ حيلتِهم هناك أحبُّ إليّ من رؤيةِ تلك الوجوهِ التي لا تنتمي إلينا ولا ننتمي إليها..

كانت مصرُ في ذلك الوقتِ تعيشُ مرحلةَ الثورةِ أيضاً، وكانت في المرحلةِ الانتقالية، فرائحةُ الثورةِ هناك هي التي جعلتني أستعيدُ ذكرياتِ الثورةِ في سورية، فسبحانَ من وحّدَ هذه الشعوبَ المقهورةَ على قلبِ رجلٍ واحدٍ يهتفُ بالحريةِ والخلاصِ من القمعِ والاستبداد..

بعد مفاوضاتٍ طويلة وتدخّلٍ من داخلِ قطاعِ غزةَ تم اتخاذُ قرارِ إدخالي إلى قطاعِ غزة من معبر رفح الحدودي، وكانت لحظاتٌ مفصليّةٌ في حياتي عندما وَطِئَت قدمايَ أرضَ فلسطين للمرةِ الأولى في حياتي، نعم للمرةِ الأولى.. ها أنذا أشمّ رائحةَ فلسطين وأنا أقفُ فوق ثراها الطاهر، لم أكن أتخيّلُ يوماً أنّ ذلك سوف يحصل، ولكنه حصل، وها هو الشرطيُّ يرحّبُ بي عند المعبر مبتسماً، لكنني وللوهلةِ الأولى خفتُ منه لأننا أُصِبنا بفوبيا الشرطة في سورية، وأخبرته بذلك، فابتسمَ وعانقني وقال لي مرحباً بك في وطنِكَ بين أهلِكَ وأحبابِك..

كيف كانت أيامي الأولى في غزة؟؟ وما هو مصيرُ أهلي الذين رحلوا هم أيضاً إلى غزة؟؟ وكيف يبدو واقعُنا في ظلّ الحصارِ والاعتداءاتِ الإسرائيلية المتكررة، واستفحالِ وباء كورونا؟؟

هذا ما سوف أحدّثُكم عنه في الحلقةِ القادمة بمشيئةِ الله..

حتى ذلك الحينِ أستودعُكم اللهَ وإلى اللقاء..

الوسوم

رابط مختصر : https://actionpal.org.uk/ar/post/16023

خاص|| مجموعة العمل – لندن

بقعٌ جغرافيةٌ كثيرةٌ وَطِئَها فلسطينيو سورية بحثاً عن الأمانِ الذي فقدوهُ بسبب الحربِ الدائرةِ هناك منذ عشرِ سنوات، فلا تكادُ منطقةٌ تخلو منهم ومن قصصِ معاناتِهم ولجوئهم، فتجدَ الفلسطينيَّ السوريَّ أحياناً في مناطقَ ومُدنٍ فقيرةٍ للغاية، لا طاقةَ لديها لإغاثةِ أهلِها الأصليّين، فكيف تكونُ قادرةً إذن على استيعابِ اللاجئينَ الجُدد الذين ضاقت عليهم الأرضُ بما رحبت..

تلك هي حكايةُ أحمد  لذي استقرت به السبلُ في قطاعِ غزّةَ المحاصر، حيث الحصارُ الخانقُ و قلةُ فرصِ العمل، والاعتداءاتُ الإسرائيليّةُ المتكررةُ بين الفَينةِ والأخرى، وهذا ما جعلَ أحمد يبتسمُ ابتسامةً غريبةً من نوعِها أثناء حديثِه معنا ،وكأنه يريدُ أنْ يقولَ لنا إنّ الناسَ تهاجرُ لتحسينِ وضعِها والوصولِ إلى أحوالٍ أفضل، إلا نحن فقد ساءت أوضاعُنا أكثر، ولكنّنا آمِنونَ على أنفسِنا وهذا هو عزاؤنا في ذلك ، ثم يستطردُ في حديثِه الخاص لمجموعة العمل :" عشنا في سورية على الهامشِ إذا صَحّ التعبير، فلم يكن لدينا تذاكرُ إقامةٍ مؤقتةٍ كسائرِ الفلسطينيينَ في أنحاءِ سورية، على اعتبارِ أننا من غزة، وأبناءُ غزّةَ لا يُمنَحون هذه التذكرةُ في سورية، ولهذا كُنّا مُهمّشينَ في معظمِ الأشياء، وكثيراً ما كُنّا نعاني أثناء إجراءِ أيةِ معاملةٍ في الدوائرِ الرسمية، إلى أنْ جاءت الثورةُ التي اجتاحت البلادَ على حينِ غفلةٍ من أمرِ الجميع ..

دعني أصدُقُكَ القولَ أنني كنتُ في طليعةِ المناصرينَ للثورة، وشاركتُ في أغلبِ المظاهراتِ الشعبية، والجنازاتِ والاعتصامات، ولم أنصت أبداً إلى تلك الأصواتِ التي كانت تطالبُ الفلسطينيينَ باحترامِ الدولةِ المُضيفةِ والتزامِ الحياد، بل هتفتُ للشهداءِ وناديتُ بالتغيير والحرية، وكنتُ في كثيرٍ من الأحيانِ مُتحمّساً للغايةِ أكثر من السوريينَ أنفسِهم..

لم يمضِ وقتٌ طويلٌ على ذلك حتى حدثَت نقطةُ التحوّلِ الكبرى في حياتي، حيث كنتُ أشاركُ في أحدِ الاعتصاماتِ أمام مبنى السرايا الحكومي، وفجأةً داهمتنا قواتُ مكافحةِ الشعبِ وليس الشغب، وتمّ اعتقالي مع مجموعةٍ من المتظاهرين..

كنتُ خائفاً لأنني لا أملكُ تذكرةَ إقامة، وكانت عقوبةُ الغزاويِّ في سورية إذا ما ارتكبَ جُرماً أن يتمّ ترحيلُهُ إلى خارجِ القطر، ولأنّ المشاركةَ في المظاهراتِ كانت جُرماً في نظرِ الحكومةِ السوريةِ فقد أصبحت فرصةُ ترحيلي سانحةً للغاية، لاسيّما أنهم اعتقلوني من قلبِ الاعتصام وهذا يثبّتُ عليّ التهمة ممّا لا يدعُ مجالاً للنكرانِ والشكّ، ولكنْ لِحُسنِ حظّي ولأهميةِ الشخصِ الذي تدخّلَ لإطلاقِ سراحي، لم تدم فترةُ اعتقالي كثيراً، فقد أمضيتُ ما يقاربُ ثلاثةَ شهورٍ تمّ ترحيلي بعدها إلى خارجِ القطر، وخلال فترةِ احتجازي هذه، طفتُ على عددٍ من الأفرعِ الأمنيّةِ التابعةِ للنظام،  وهم يُخوّنونني لأنني أناهضُ حكومتَهم التي دعمَت الشعبَ الفلسطينيَّ ووقفَت إلى جانبِه، ثم استقرت بي السبل في مركزِ احتجازٍ في منطقةِ باب مصلّى بدمشق، خاصٍ بالأجانبِ الحاملينَ لجنسيّاتٍ غيرِ سورية، فكان هناك الفلسطينيُّ والعراقيُّ والمغربيُّ والأفغانيُّ وغيرُهم، ولسنا جميعاً متورّطين بدعمِ الثورة، بل هناك من عليه تهمٌ أخرى خارجَ هذا السياق ..

كانت ظروفُ الاحتجازِ غايةً في الصعوبةِ والمأساة، حيث كانوا في كلِّ يومِ سبتٍ من كلّ أسبوع، يرسلوننا إلى فرعِ الهجرةِ والجوازاتِ في منطقةِ المرجة، من الساعةِ السادسةِ صباحاً حتى الساعةِ الرابعةِ مساءً، يضعوننا خلال هذه الفترةِ في غرفةِ صغيرةٍ مكتظّةٍ جداً، فيها أكثرُ من ثلاثين شخصاً بين شبابٍ ورجالٍ وشيوخٍ مُسنّين، لا يُسمَحُ لنا خلال هذه الفترةِ بالطعامِ أو الخروجِ لقضاءِ الحاجةِ، فيضطرّ البعضُ أحياناً إلى التبوّلِ في ثبابِه، ممّا جعلَ رائحةَ الغرفةِ قاتلةً ولا تُطاقُ أبداً، والويلُ الويلُ لكلِّ من تسوّلُ له نفسُهُ أن يطلبَ الخروجَ أو يطلبَ طعاماً أو شيئاً من هذا القبيل، لأنّ لعناتِهم وشتائمَهم وضرباتِهم سوف تنهالُ عليه من كلّ حدبٍ وصوب، وهذا ما كان يدفعُ الأغلبيةَ إلى تحمّلِ أعباءِ الاحتجاز ، حيث كنا شهوداً على رجلٍ مغربيٍّ بلغَ من العمرِ عتيّاً، ماتَ بيننا بسببِ الإهمالِ وعدمِ الاكتراثِ والظروفِ الصحيّةِ السيّئةِ داخل المعتقل ..

وعندما جاء دوري في الاستدعاءِ والتحقيق، أخبروني أنه تمّ اتخاذُ القرارِ بترحيلي إلى خارجِ القطر من قبلِ المسؤولِ البعثيّ هشام بختيار، ولا مجالَ أمامي أبداً سوى اختيار واحدةٍ من الدولِ التي سوف تكونُ مطروحةً على الطاولة، وهذا كلُّهُ ولديَّ (واسطة) تدخّلَت من أجلي، فكيف هو الحالُ بمن يُترَكُ وحيداً بين أنيابِهم؟؟ بالتأكيد سوف ينالُ المصيرَ ذاتَهُ الذي نالَهُ ذلك الشيخُ المغربيُّ عندما سُحِبت جُثّتُهُ من قبلِ جنودِهم ببرودةِ أعصابٍ، وكأنّ شيئاً لم يحدث أبداً..

خيّروني بين أندونسيا أو ماليزيا أو السودان، ولكنني وبفضلِ اللهِ كنتُ ثابتاً في ردّي عليهم بعد كلّ مرة، إمّا العودةُ إلى منزلي في المخيم أو إرجاعي إلى قطاعِ غزةَ مسقطِ رأسي ووطني الأمّ، وكانوا يقولونَ لي بعدَ كلّ مرة" لا نستطيعُ إيصالَك إلى هناك، فلا يوجد مطارٌ قيد العملِ هناك، وليس لدينا تواصلٌ بهذا الخصوصِ مع السلطةِ الحاكمةِ في غزة، ولكنني بقيتُ مصرّاً على رأيي، إلى أن قالوا لي :" نحن نرسلُك إلى مصر ومن هناك لا علاقةَ لنا بك، ربّما يستطيعون إدخالَكَ إلى قطاع غزةَ وربما لا يستطيعون، وفي حالِ عدمِ الاستطاعةِ إياك أن تفكّرَ بالرجوعِ إلى هنا في حال ضغطَت عليك السلطاتُ المصرية، لأنّك سوف تُقادُ إلى فرعِ فلسطين ولن ترى النورَ طيلةَ فترةِ حياتِكَ في حال بقيتَ على قيدِ الحياةِ طبعاً ، وإياك أيضاً أن تخبرَ السلطاتِ هناك بما رأيتَهُ أو تعرّضتَ له خلال فترةِ احتجازِكَ عندنا، فسوف ننتقمُ من أسرتِكَ وقتَها، ونحيطُكَ علماً أننا نتواصلُ مع كافةِ الأطرافِ لمعرفةِ ما يقولُهُ أمثالُكَ خارجَ القطر ..

وافقتُ على هذا الطرحِ وحاولتُ أن أقنعَهم برؤيةِ أسرتي قبل الترحيلِ لكنهم رفضوا، وباشروا على الفور بالإجراءاتِ اللازمة، و تمّ اقتيادي من باب مصلى مباشرةً إلى مطارِ دمشق الدولي، لتكونَ تلك اللحظاتُ آخرَ حُصّتي في سورية التي لي فيها ذكرياتٌ لا تُنسَى، طفولةٌ بين أزقّةِ المخيمات، أصدقاءٌ فرّقتهم الحربُ داخل القطرِ وخارجه، شقاوةٌ جميلةٌ رغم شدّتِها، ويطولُ شريطُ الذاكرةِ أكثرَ من مسافةِ الطريق المؤدّيةِ إلى المطار، حيث وجدتُ نفسي أُطرَدُ كما يُطرَدُ المجرمون وتُجّارُ المخدّرات، من بلدٍ ربما نملكُ فيه أكثرَ ممّا يملكُه هؤلاء الذين يشرفون على طردي، لا ذنبَ لي سوى أنني أنتمي لغزةَ العِزّة، مُهجةُ الروحِ ونبضُ الفؤاد .. اختلطت عليّ المشاعرُ آنذاك بين حزنٍ لأنني أغادرُ بلداً عزيزاً على قلوبِنا ومخيّماً له في ذاكرتِنا مساحةٌ كبيرةٌ تأبى النسيانَ والزوال، وسرورٍ لأنني سأرى غزةَ للمرةِ الأولى رغمَ صعوبةِ الحياةِ هناك، لأنني كنتُ على درايةٍ بالواقعِ الصعبِ الذي يعيشُه الناسُ هناك بسبب الحصارِ المفروضِ عليهم.. فكيف ستكونُ حياتي الجديدة؟!! ومن أين أبدأ؟؟ وماذا تراني فاعلاً أمام كل هذه التحدياتِ والصعوبات؟؟

سلسلةٌ من التساؤلاتِ انهالت عليّ في مطارِ دمشق، قطَعَها هديرُ الطائرةِ المتوجّهةِ إلى القاهرة، لأصعَدَ إليها مرتجفاً خائفاً من المرحلةِ الجديدةِ المقبلة..

هبطت الطائرةُ في مطارِ القاهرة، وتم اقتيادي إلى غرفةِ التحقيقِ هناك، وبدأ مسلسلٌ آخرُ هناك، بمحاولةِ إقناعي بالعودةِ إلى سورية لأنّني لا أملكُ وثيقةً تخوّلُني بالدخولِ إلى قطاعِ غزة، كما أنهم حاولوا الالتفافَ على قراري بالقول إنهم سوف يتوسّطون لدى السلطاتِ السوريةِ كي لا يتعرّضونَ لي بالاعتقالِ والأذى، ولكنّني بقيتُ مصرّاً على ضرورةِ إدخالي إلى قطاعِ غزةَ لأنني على يقينٍ تامٍ أنّ العودةَ تعني لي الانتحار مرةً أخرى، فكيف يمكنُ لشخصٍ أُفلِتَ من أيدي هؤلاء أنْ يعودَ إليهم مرةً أخرى.. لَحِصارُ قطاعِ غزّةَ وقلّةُ حيلتِهم هناك أحبُّ إليّ من رؤيةِ تلك الوجوهِ التي لا تنتمي إلينا ولا ننتمي إليها..

كانت مصرُ في ذلك الوقتِ تعيشُ مرحلةَ الثورةِ أيضاً، وكانت في المرحلةِ الانتقالية، فرائحةُ الثورةِ هناك هي التي جعلتني أستعيدُ ذكرياتِ الثورةِ في سورية، فسبحانَ من وحّدَ هذه الشعوبَ المقهورةَ على قلبِ رجلٍ واحدٍ يهتفُ بالحريةِ والخلاصِ من القمعِ والاستبداد..

بعد مفاوضاتٍ طويلة وتدخّلٍ من داخلِ قطاعِ غزةَ تم اتخاذُ قرارِ إدخالي إلى قطاعِ غزة من معبر رفح الحدودي، وكانت لحظاتٌ مفصليّةٌ في حياتي عندما وَطِئَت قدمايَ أرضَ فلسطين للمرةِ الأولى في حياتي، نعم للمرةِ الأولى.. ها أنذا أشمّ رائحةَ فلسطين وأنا أقفُ فوق ثراها الطاهر، لم أكن أتخيّلُ يوماً أنّ ذلك سوف يحصل، ولكنه حصل، وها هو الشرطيُّ يرحّبُ بي عند المعبر مبتسماً، لكنني وللوهلةِ الأولى خفتُ منه لأننا أُصِبنا بفوبيا الشرطة في سورية، وأخبرته بذلك، فابتسمَ وعانقني وقال لي مرحباً بك في وطنِكَ بين أهلِكَ وأحبابِك..

كيف كانت أيامي الأولى في غزة؟؟ وما هو مصيرُ أهلي الذين رحلوا هم أيضاً إلى غزة؟؟ وكيف يبدو واقعُنا في ظلّ الحصارِ والاعتداءاتِ الإسرائيلية المتكررة، واستفحالِ وباء كورونا؟؟

هذا ما سوف أحدّثُكم عنه في الحلقةِ القادمة بمشيئةِ الله..

حتى ذلك الحينِ أستودعُكم اللهَ وإلى اللقاء..

الوسوم

رابط مختصر : https://actionpal.org.uk/ar/post/16023