map
RSS instagram youtube twitter facebook Google Paly App stores

عدد الضحايا

حتى اليوم

4256

بودكاست قصة من المخيم بعنوان حينَ يخسرُ جمالٌ كل ما يملكُ (1)

تاريخ النشر : 07-02-2022
بودكاست قصة من المخيم بعنوان حينَ يخسرُ جمالٌ كل ما يملكُ (1)

|مجموعة العمل| لندن |

خسرَ بعضُهم بيوتَهُم وما شيَّدُوهُ في المخيمات، وخسرَ بعضُهمُ الآخرُ فلذاتِ أكبادهِم، في حينِ خسرَ آخرونَ أموالَهم التي حصلُوا عليها بعدَ رحلةٍ طويلةٍ خُصِمَتْ من عدَّادِ حياتِهم، لكنَّنَا عثرنَا على شخصٍ خَسرَ كلَّ هذهِ الأشياءِ سويّةً، فلمْ يبقَ لهُ سوى لجوئِهِ الآثمِ في إحدى أحياءِ العاصمةِ الألمانيةِ برلين، والأغربَ من ذلكَ أنَّهُ لم يحمِّلِ المسؤوليةَ فيما جَرى لهُ لقواتِ النظامِ السوريِّ التي هدَمَتِ المخيماتِ الفلسطينيةَ على رؤوسِ أصحابِهَا،  بلْ إنَّ حكايَتَهُ كانتْ معَ قواتِ المعارضةِ أو حَمَلةِ السلاحِ الذينَ وجَّهُوا بنادِقَهُم إلى الاتجاهِ الخطأ، واستغلُّوا الفلتانَ الأمنيَّ الحاصلَ لِيَعيثُوا فساداً ونهباً وخطفاً وسرقة ..

بدموعهِ الحارقةِ يروي جمالُ قصَّتَهُ لمجموعةِ العمل، وكيفَ انقلبتْ بهِ الحياةُ رأساً على عقِب، وكيفَ حوَّلتهُ مجرياتُ الأحداثِ من شخصٍ كريمِ النفسِ وفيرِ الرغد، إلى لاجئٍ يتسولُ لقمةَ العيشِ ورضا القانون..

جمالٌ؛ فلسطينيٌّ سوريٌّ ينحدرُ من مدينة حيفا، كان يسكن في إحدى قرى ريف درعا الغربي، متزوج ولديه ثلاثة أبناء، يقولُ في حديثِهِ الخاصِّ لمجموعةِ العمل: "كُنتَ أعملُ قبلَ الثورةِ السوريةِ في الإماراتِ في إحدى شركاتِ الشحن، حيثُ كنتُ أتقاضى راتباً عالياً وفَّر لي ولأُسرتي حياةً كريمة، فقدْ اشتريتُ منزلاً في درعا وقطعةَ أرضٍ زراعية، وسيارة، وكنتُ خلالَ الصيفِ أسافرُ إلى سوريةَ شهراً لرؤيةِ أسرتي ثمَّ أعودُ لأراهم في العامِ القادم، ولم أكنْ أبخلُ على أقاربي وأصدقائي في تقديمِ المعونةِ الماديةِ لهمْ لأنَّ الفقرَ كان مُستشرياً بينهم..

ومعَ اندلاعِ الثورةِ السوريةِ أصبحتْ أخشى على مصيرِ أسرتي هناكَ لاسيما معَ توسُّعِ رقعةِ الاحتجاجاتِ ومبالغةِ النظامِ في الاعتداءِ على المتظاهرينَ واعتقالِهِ العشوائيِّ للناسِ دونَ تفرقةٍ بينَ رجلٍ وامرأة، أو بينَ صغيرٍ وكبير، ولهذا بدأتُ أتشاورُ مع زوجَتِي للبحثِ عن بدائل، وتوصَّلنا إلى حلٍّ يقضي بالنزولِ إلى سوريةَ والاطلاعِ على الأوضاعِ عن كثبٍ واتخاذِ القرارِ بحسبِ ما يؤولُ إليهِ المشهدُ هناك، وبالفعلِ حصلتُ على إجازةٍ من مديرِ الشركةِ لمدةِ شهر، رغمَ إنَّ المديرَ كانَ متردداً كثيراً في طليعةِ الأمرِ في منحيَ الإجازة، خشيةَ تعرُّضي للخطرِ هناكَ أو عدمِ القدرةِ على العودةِ للعمل، وقالَ لي عندمَا أصررتُ عليهِ إنهُ ينبغي العودةُ خلالَ شهرٍ وإلا فإنّهُ سوفَ يبحثُ عن بديلٍ آخرَ ..

وصلتُ إلى درعا في شهرِ شباطَ ألفينِ واثني عشرَ2012، فوجدتُ تلكَ المدينةَ بمظهرٍ جديدٍ لمْ أعهدْهُ سابقاً، وخلالَ جولتيَ الأولى في شوارِعِهَا اتخذتُ قراراً سريعاً بالتضامُنِ معَ الثورةِ والمتظاهرينَ الذينَ يطالبونَ بحقوقِهُمُ المشروعة، وعاهدْتُ نفسيَ أنْ أساندَ الثورةَ بكلِّ ما أستطيع، فلمْ أكنْ قادراً على التزامِ الصمتِ وأنا أرى الناسَ تموتُ تحتَ القصف، ولمْ أستطعْ التزامَ الحيادِ حيالَ ما يجري، بلْ رُحتُ أناصرُ الثورةَ بالكلامِ أولاً، في المجالسِ والسهرات، وأدافعُ عنها بكلِّ ما أُوتيتُ من عزيمة، لدرجةِ أنَّ زوجتي وإخوتِي بدؤوا يُحذّرونني من ذلك، فأماميَ طريقُ عودةٍ للإماراتِ وسوفَ أمرُّ على حواجزِ النظامِ أثناءَ ذهابيَ إلى المطار، لذلكَ من الضرورِيِّ ضبطُ النفسِ وعدمُ مناصرةِ الثورة ..

وفي ليلةٍ عصيبةٍ بدأَ القصفُ الشديدُ على قريتِنَا، فاستُشهِدَ جارُنَا وسقطَ العديدُ من الجرحى من أبناءِ الحيِّ الذي أَسكُنُ فيه، فحرَّكتُ سيارتي على الفورِ وبدأتُ بإسعافِ الجَرحى إلى المشفى الميداني، ونقْلِ العائلاتِ إلى الأماكنِ البعيدةِ عنِ القصف، حيثُ كانَ الخوفُ والهلعُ يخيِّمُ على البلدة، مما أدَّى إلى زيادَةِ الحِقْدِ عنديَ على النظامِ الذي تزامَنَ معَ مناصرَتِي للثورةِ أيضاً، وهنا وقعتُ في حيرةٍ من أمري، هل يا تُرَى تمَّ تعميمُ اسمي على الحواجز؟؟ هل أتمكنُ من الوصولِ إلى مطارِ دمشقَ دونَ اعتقالي من قِبلِ أجهزةِ الأمن؟؟؟ هل أكونُ قادراً على تركِ أسرَتِي في مثلِ هذهِ الأجواءِ المتوترة؟؟ كلُّ هذهِ الأسئلةِ كنتَ أطرحُهَا على نفسيَ كلَّما اقتربَ موعدُ عودتِي إلى الإمارات، ليأتيَ الجوابُ الفصلُ من صديقي الذي كانَ يعملُ في دائرةِ الهجرةِ والجوازاتِ بأنَّني مطلوبٌ لفرعِ الأمنِ العسكريِّ في درعا، وتُهمتمي مُوثَّقةٌ لديهم بالصوتِ والصورةِ خلالَ إسعافيَ الجرحى إلى المشفى الميداني، وهُنا كانت الفاجعةُ لأنَّني لنْ أتمكنَ من العودةِ إلى عملي..

لم أندمْ على ذلك، وعلى الفورِ اتصلتُ بالمديرِ في الإماراتِ وأخبرْتُهُ.. لمْ يكنْ لطيفاً أو متسامحاً معي، بل حمَّلَني المسؤوليةَ كاملةً بعدَ أنْ وصفَ تصرفاتِي بتصرفاتِ المراهقين، وهدَّدنِي بالفصلِ منِ العملِ إذا لمْ أعُدْ بعدَ شهر، لكنَّني لم أعبَأْ بكلامِهِ إطلاقاً لأنَّ الثورةَ كانتْ أهمَّ بالنسبةِ لي، فأرضيَ الزراعيةُ التي اشتريتُهَا تكفيني لإعالَةِ أسرتي، لكنَّني تلقيتُ الكثيرَ من اللومِ من أقاربِي وأُسرتِي لأنَّني تنازلتُ عن نعمةِ العملِ التي كانتْ متوفرةً لديَّ والتي يتمنَّاها كثيرونَ على حدِّ قولِهم..

لم أكنْ أتوقَّعُ يوماً أن أصبحَ كارهاً للثورةِ بعدَما تعرَّضتُ له، فالثورةُ التي ناصرْتُها بكلِّ ما أملكُ وهذا واجبٌ هي التي أوصلَتني اليومَ إلى هذهِ الحال، حيثُ كنتُ عائداً ذاتَ ليلةٍ إلى منزلي متأخراً، لتعتَرضُنِي دوريةٌ تابعةٌ لكتيبةٍ في الجيشِ الحرِّ لا أرغبُ في تسميتها، فاستوقفتْنِي وبدأتْ بالتحقيقِ معيَ بأسلوبٍ صبياني مستفزّ، ولم يشفعْ لي عندَهُم كلُّ ما قُلْتُهُ لهم عن مناصرَتِي للثورة، رغمَ أنَّهم أجرَوا اتصالاتِهِم معَ بعضِ أفرادِ الجيشِ الحرِّ في قريتي للاستفسارِ عنّي، والكلُّ أشادَ بي، لكنَّني كنتُ أعلمُ أنَّ عيونَهُم كانت على السيارةِ وعلى جهازِ اللابتوب بداخِلِهَا، وهذا مَا حدث، فقدْ ضربونِي وأنا ابنُ الخمسةِ وخمسينَ عاماً، واعتدَوا عليَّ بالضربِ والشَّتمِ بذريعةِ أنَّني لم أتفاعلْ مع تحقيقِهِم، وكلَّما حاولتُ الدفاعَ عن نفسيَ زادُوا في ضربِهِم لي وتجمهُرِهِم حولي وكُلُّهم ملثمون، لم أعرفْ أحداً منهم، ثم اقتادوني إلى مكانٍ مجهولٍ فظننْتُ أنَّهم سيقتلونني، ولهذا فقدْ استشعرتُ بالخطر، وبدأتُ أتوسَّلُ إليهم أنْ خذوا مِنّي كلَّ شيءٍ وأطلقُوا سراحي ..

كانوا حريصينَ على ألا أعرفَ أسماءَهُم أو اسمَ الفصيلِ الذي ينتمونَ إليه، وبقيتُ عندَهُم ثلاثةَ أيامٍ أشبعونِي خلالَهَا ضرباً ومهانةً ولم يبقَ جزءٌ من جسَدي إلا وضربُوهُ وداسُوا عليه، وكلَّما كنتُ أُعدِّدُ لهم ما أنجزْتُهُ للثورةِ كانوا يزيدونَ من حقْدِهُمُ عليَّ وإيذائيَ حتّى حَسِبْتُهم تابعينَ للنظامِ السوري..

خرجتُ من عندِهِم بعدَ ثلاثةِ أيام، بعدَ أن قيَّدونِي ووضعُوا الغطاءَ على عيونِي كي لا أحفظَ مقرَّهُم خشيةَ الانتقام، ورموني على أطرافِ بلدةِ المزيريب راجلاً حافياً بعدَ أن سرقُوا سيارتي وكلَّ ما فيها من أموالٍ وحاجاتٍ أخرى كالجوّالِ واللابتوب وغيرِه، لأصلَ إلى فمَ الحيِّ وأجدَ أسرَتِي وجيرانِي في حالةٍ يُرثى لها بعدَ قضائِهِم ثلاثةَ أيامٍ متواصلةٍ ليلاً نهاراً وهمْ يبحثونَ عنّيَ ويسألونَ الفصائلَ والقادةَ عني دونَ أيَّةِ نتيجة..

لقائِيَ بهم كانَ دامياً إلى حدٍّ بعيدٍ لاسيما أنَّ نداءاتِ الانتقامِ بدأتْ تعلو في الأفق، لأنَّ الفاعلينَ كانوا يتوسَّطونَ المدينةَ دونَ أن يحسِبُوا حساباً لأحد، لكنَّ رأسَ الخيطِ لم يكنْ بحوزَتِنَا لأنّني لم أتعرَّفْ على هُويَّةِ أحدٍ منهم، ورغمَ أنَّنا بذلنا جهداً كبيراً في التواصلِ معَ فرَقِ الجيشِ الحرِّ لمعرفةِ اسمِ قائدِ الدوريةِ التي كانت تقفُ في ذلكَ المكانِ وفي ذلكَ التوقيتِ إلا أنّنَا لمْ نفلح، لأنَّ الفصائلَ كلَّها نفتْ مسؤوليَّتَها عن تلكَ الدوريةِ وقالتْ إنَّها لمْ تقمْ بتسييرِ أيِّ فردٍ في تلكَ الليلة، لأنَّ الأوضاعَ في تلكَ الليلةِ لمْ تكنْ تستدعي تسييرَ الدوريات، وهذا الكلامُ قالتهُ لنَا معظَمُ المكاتبِ الثوريةِ التي زرناها، بلْ إنّ بعضَهُم راحَ يحمِّلُني المسؤوليةَ لأنّني خرجتُ في وقتٍ متأخرٍ من الليلِ في ظلِّ تردِّي الأوضاعِ الأمنية، كما أنّني ترددتُ إلى أكثرِ من قريةٍ في تلكَ الليلةِ وهذا تصرُّفٌ غيرُ منطقي، وبالتالي لن يستطيعُوا مساعدَتِي لأنَّهم لا يعرفونَ شيئاً عن الخاطفينَ الذينَ خطفونِي من وسطِ أحياءِ المدينةِ وليسَ من بينِ الأزقَّة، وهذا ما يضعُ ألفَ إشارةِ استفهامٍ حولَ الحادثة، فلم يستطيعُوا حمايَتِي لا داخلَ السجنِ ولا خارجَ السجن ..

 لم تنقضِ إلا أيّامٌ معدوداتٌ حتى تعرَّضتُ لموقفٍ آخرَ أشدَّ وأصعب، أُحدِّثُكُم عنهُ في الحلقةِ القادمةِ إن شاءَ الله..

شكراً لكمْ ولموقِعِكُمُ الكريمِ لتواصُلِكُم معنَا واهتمامِكُم بمعاناتِنَا ...

الوسوم

رابط مختصر : https://actionpal.org.uk/ar/post/16792

|مجموعة العمل| لندن |

خسرَ بعضُهم بيوتَهُم وما شيَّدُوهُ في المخيمات، وخسرَ بعضُهمُ الآخرُ فلذاتِ أكبادهِم، في حينِ خسرَ آخرونَ أموالَهم التي حصلُوا عليها بعدَ رحلةٍ طويلةٍ خُصِمَتْ من عدَّادِ حياتِهم، لكنَّنَا عثرنَا على شخصٍ خَسرَ كلَّ هذهِ الأشياءِ سويّةً، فلمْ يبقَ لهُ سوى لجوئِهِ الآثمِ في إحدى أحياءِ العاصمةِ الألمانيةِ برلين، والأغربَ من ذلكَ أنَّهُ لم يحمِّلِ المسؤوليةَ فيما جَرى لهُ لقواتِ النظامِ السوريِّ التي هدَمَتِ المخيماتِ الفلسطينيةَ على رؤوسِ أصحابِهَا،  بلْ إنَّ حكايَتَهُ كانتْ معَ قواتِ المعارضةِ أو حَمَلةِ السلاحِ الذينَ وجَّهُوا بنادِقَهُم إلى الاتجاهِ الخطأ، واستغلُّوا الفلتانَ الأمنيَّ الحاصلَ لِيَعيثُوا فساداً ونهباً وخطفاً وسرقة ..

بدموعهِ الحارقةِ يروي جمالُ قصَّتَهُ لمجموعةِ العمل، وكيفَ انقلبتْ بهِ الحياةُ رأساً على عقِب، وكيفَ حوَّلتهُ مجرياتُ الأحداثِ من شخصٍ كريمِ النفسِ وفيرِ الرغد، إلى لاجئٍ يتسولُ لقمةَ العيشِ ورضا القانون..

جمالٌ؛ فلسطينيٌّ سوريٌّ ينحدرُ من مدينة حيفا، كان يسكن في إحدى قرى ريف درعا الغربي، متزوج ولديه ثلاثة أبناء، يقولُ في حديثِهِ الخاصِّ لمجموعةِ العمل: "كُنتَ أعملُ قبلَ الثورةِ السوريةِ في الإماراتِ في إحدى شركاتِ الشحن، حيثُ كنتُ أتقاضى راتباً عالياً وفَّر لي ولأُسرتي حياةً كريمة، فقدْ اشتريتُ منزلاً في درعا وقطعةَ أرضٍ زراعية، وسيارة، وكنتُ خلالَ الصيفِ أسافرُ إلى سوريةَ شهراً لرؤيةِ أسرتي ثمَّ أعودُ لأراهم في العامِ القادم، ولم أكنْ أبخلُ على أقاربي وأصدقائي في تقديمِ المعونةِ الماديةِ لهمْ لأنَّ الفقرَ كان مُستشرياً بينهم..

ومعَ اندلاعِ الثورةِ السوريةِ أصبحتْ أخشى على مصيرِ أسرتي هناكَ لاسيما معَ توسُّعِ رقعةِ الاحتجاجاتِ ومبالغةِ النظامِ في الاعتداءِ على المتظاهرينَ واعتقالِهِ العشوائيِّ للناسِ دونَ تفرقةٍ بينَ رجلٍ وامرأة، أو بينَ صغيرٍ وكبير، ولهذا بدأتُ أتشاورُ مع زوجَتِي للبحثِ عن بدائل، وتوصَّلنا إلى حلٍّ يقضي بالنزولِ إلى سوريةَ والاطلاعِ على الأوضاعِ عن كثبٍ واتخاذِ القرارِ بحسبِ ما يؤولُ إليهِ المشهدُ هناك، وبالفعلِ حصلتُ على إجازةٍ من مديرِ الشركةِ لمدةِ شهر، رغمَ إنَّ المديرَ كانَ متردداً كثيراً في طليعةِ الأمرِ في منحيَ الإجازة، خشيةَ تعرُّضي للخطرِ هناكَ أو عدمِ القدرةِ على العودةِ للعمل، وقالَ لي عندمَا أصررتُ عليهِ إنهُ ينبغي العودةُ خلالَ شهرٍ وإلا فإنّهُ سوفَ يبحثُ عن بديلٍ آخرَ ..

وصلتُ إلى درعا في شهرِ شباطَ ألفينِ واثني عشرَ2012، فوجدتُ تلكَ المدينةَ بمظهرٍ جديدٍ لمْ أعهدْهُ سابقاً، وخلالَ جولتيَ الأولى في شوارِعِهَا اتخذتُ قراراً سريعاً بالتضامُنِ معَ الثورةِ والمتظاهرينَ الذينَ يطالبونَ بحقوقِهُمُ المشروعة، وعاهدْتُ نفسيَ أنْ أساندَ الثورةَ بكلِّ ما أستطيع، فلمْ أكنْ قادراً على التزامِ الصمتِ وأنا أرى الناسَ تموتُ تحتَ القصف، ولمْ أستطعْ التزامَ الحيادِ حيالَ ما يجري، بلْ رُحتُ أناصرُ الثورةَ بالكلامِ أولاً، في المجالسِ والسهرات، وأدافعُ عنها بكلِّ ما أُوتيتُ من عزيمة، لدرجةِ أنَّ زوجتي وإخوتِي بدؤوا يُحذّرونني من ذلك، فأماميَ طريقُ عودةٍ للإماراتِ وسوفَ أمرُّ على حواجزِ النظامِ أثناءَ ذهابيَ إلى المطار، لذلكَ من الضرورِيِّ ضبطُ النفسِ وعدمُ مناصرةِ الثورة ..

وفي ليلةٍ عصيبةٍ بدأَ القصفُ الشديدُ على قريتِنَا، فاستُشهِدَ جارُنَا وسقطَ العديدُ من الجرحى من أبناءِ الحيِّ الذي أَسكُنُ فيه، فحرَّكتُ سيارتي على الفورِ وبدأتُ بإسعافِ الجَرحى إلى المشفى الميداني، ونقْلِ العائلاتِ إلى الأماكنِ البعيدةِ عنِ القصف، حيثُ كانَ الخوفُ والهلعُ يخيِّمُ على البلدة، مما أدَّى إلى زيادَةِ الحِقْدِ عنديَ على النظامِ الذي تزامَنَ معَ مناصرَتِي للثورةِ أيضاً، وهنا وقعتُ في حيرةٍ من أمري، هل يا تُرَى تمَّ تعميمُ اسمي على الحواجز؟؟ هل أتمكنُ من الوصولِ إلى مطارِ دمشقَ دونَ اعتقالي من قِبلِ أجهزةِ الأمن؟؟؟ هل أكونُ قادراً على تركِ أسرَتِي في مثلِ هذهِ الأجواءِ المتوترة؟؟ كلُّ هذهِ الأسئلةِ كنتَ أطرحُهَا على نفسيَ كلَّما اقتربَ موعدُ عودتِي إلى الإمارات، ليأتيَ الجوابُ الفصلُ من صديقي الذي كانَ يعملُ في دائرةِ الهجرةِ والجوازاتِ بأنَّني مطلوبٌ لفرعِ الأمنِ العسكريِّ في درعا، وتُهمتمي مُوثَّقةٌ لديهم بالصوتِ والصورةِ خلالَ إسعافيَ الجرحى إلى المشفى الميداني، وهُنا كانت الفاجعةُ لأنَّني لنْ أتمكنَ من العودةِ إلى عملي..

لم أندمْ على ذلك، وعلى الفورِ اتصلتُ بالمديرِ في الإماراتِ وأخبرْتُهُ.. لمْ يكنْ لطيفاً أو متسامحاً معي، بل حمَّلَني المسؤوليةَ كاملةً بعدَ أنْ وصفَ تصرفاتِي بتصرفاتِ المراهقين، وهدَّدنِي بالفصلِ منِ العملِ إذا لمْ أعُدْ بعدَ شهر، لكنَّني لم أعبَأْ بكلامِهِ إطلاقاً لأنَّ الثورةَ كانتْ أهمَّ بالنسبةِ لي، فأرضيَ الزراعيةُ التي اشتريتُهَا تكفيني لإعالَةِ أسرتي، لكنَّني تلقيتُ الكثيرَ من اللومِ من أقاربِي وأُسرتِي لأنَّني تنازلتُ عن نعمةِ العملِ التي كانتْ متوفرةً لديَّ والتي يتمنَّاها كثيرونَ على حدِّ قولِهم..

لم أكنْ أتوقَّعُ يوماً أن أصبحَ كارهاً للثورةِ بعدَما تعرَّضتُ له، فالثورةُ التي ناصرْتُها بكلِّ ما أملكُ وهذا واجبٌ هي التي أوصلَتني اليومَ إلى هذهِ الحال، حيثُ كنتُ عائداً ذاتَ ليلةٍ إلى منزلي متأخراً، لتعتَرضُنِي دوريةٌ تابعةٌ لكتيبةٍ في الجيشِ الحرِّ لا أرغبُ في تسميتها، فاستوقفتْنِي وبدأتْ بالتحقيقِ معيَ بأسلوبٍ صبياني مستفزّ، ولم يشفعْ لي عندَهُم كلُّ ما قُلْتُهُ لهم عن مناصرَتِي للثورة، رغمَ أنَّهم أجرَوا اتصالاتِهِم معَ بعضِ أفرادِ الجيشِ الحرِّ في قريتي للاستفسارِ عنّي، والكلُّ أشادَ بي، لكنَّني كنتُ أعلمُ أنَّ عيونَهُم كانت على السيارةِ وعلى جهازِ اللابتوب بداخِلِهَا، وهذا مَا حدث، فقدْ ضربونِي وأنا ابنُ الخمسةِ وخمسينَ عاماً، واعتدَوا عليَّ بالضربِ والشَّتمِ بذريعةِ أنَّني لم أتفاعلْ مع تحقيقِهِم، وكلَّما حاولتُ الدفاعَ عن نفسيَ زادُوا في ضربِهِم لي وتجمهُرِهِم حولي وكُلُّهم ملثمون، لم أعرفْ أحداً منهم، ثم اقتادوني إلى مكانٍ مجهولٍ فظننْتُ أنَّهم سيقتلونني، ولهذا فقدْ استشعرتُ بالخطر، وبدأتُ أتوسَّلُ إليهم أنْ خذوا مِنّي كلَّ شيءٍ وأطلقُوا سراحي ..

كانوا حريصينَ على ألا أعرفَ أسماءَهُم أو اسمَ الفصيلِ الذي ينتمونَ إليه، وبقيتُ عندَهُم ثلاثةَ أيامٍ أشبعونِي خلالَهَا ضرباً ومهانةً ولم يبقَ جزءٌ من جسَدي إلا وضربُوهُ وداسُوا عليه، وكلَّما كنتُ أُعدِّدُ لهم ما أنجزْتُهُ للثورةِ كانوا يزيدونَ من حقْدِهُمُ عليَّ وإيذائيَ حتّى حَسِبْتُهم تابعينَ للنظامِ السوري..

خرجتُ من عندِهِم بعدَ ثلاثةِ أيام، بعدَ أن قيَّدونِي ووضعُوا الغطاءَ على عيونِي كي لا أحفظَ مقرَّهُم خشيةَ الانتقام، ورموني على أطرافِ بلدةِ المزيريب راجلاً حافياً بعدَ أن سرقُوا سيارتي وكلَّ ما فيها من أموالٍ وحاجاتٍ أخرى كالجوّالِ واللابتوب وغيرِه، لأصلَ إلى فمَ الحيِّ وأجدَ أسرَتِي وجيرانِي في حالةٍ يُرثى لها بعدَ قضائِهِم ثلاثةَ أيامٍ متواصلةٍ ليلاً نهاراً وهمْ يبحثونَ عنّيَ ويسألونَ الفصائلَ والقادةَ عني دونَ أيَّةِ نتيجة..

لقائِيَ بهم كانَ دامياً إلى حدٍّ بعيدٍ لاسيما أنَّ نداءاتِ الانتقامِ بدأتْ تعلو في الأفق، لأنَّ الفاعلينَ كانوا يتوسَّطونَ المدينةَ دونَ أن يحسِبُوا حساباً لأحد، لكنَّ رأسَ الخيطِ لم يكنْ بحوزَتِنَا لأنّني لم أتعرَّفْ على هُويَّةِ أحدٍ منهم، ورغمَ أنَّنا بذلنا جهداً كبيراً في التواصلِ معَ فرَقِ الجيشِ الحرِّ لمعرفةِ اسمِ قائدِ الدوريةِ التي كانت تقفُ في ذلكَ المكانِ وفي ذلكَ التوقيتِ إلا أنّنَا لمْ نفلح، لأنَّ الفصائلَ كلَّها نفتْ مسؤوليَّتَها عن تلكَ الدوريةِ وقالتْ إنَّها لمْ تقمْ بتسييرِ أيِّ فردٍ في تلكَ الليلة، لأنَّ الأوضاعَ في تلكَ الليلةِ لمْ تكنْ تستدعي تسييرَ الدوريات، وهذا الكلامُ قالتهُ لنَا معظَمُ المكاتبِ الثوريةِ التي زرناها، بلْ إنّ بعضَهُم راحَ يحمِّلُني المسؤوليةَ لأنّني خرجتُ في وقتٍ متأخرٍ من الليلِ في ظلِّ تردِّي الأوضاعِ الأمنية، كما أنّني ترددتُ إلى أكثرِ من قريةٍ في تلكَ الليلةِ وهذا تصرُّفٌ غيرُ منطقي، وبالتالي لن يستطيعُوا مساعدَتِي لأنَّهم لا يعرفونَ شيئاً عن الخاطفينَ الذينَ خطفونِي من وسطِ أحياءِ المدينةِ وليسَ من بينِ الأزقَّة، وهذا ما يضعُ ألفَ إشارةِ استفهامٍ حولَ الحادثة، فلم يستطيعُوا حمايَتِي لا داخلَ السجنِ ولا خارجَ السجن ..

 لم تنقضِ إلا أيّامٌ معدوداتٌ حتى تعرَّضتُ لموقفٍ آخرَ أشدَّ وأصعب، أُحدِّثُكُم عنهُ في الحلقةِ القادمةِ إن شاءَ الله..

شكراً لكمْ ولموقِعِكُمُ الكريمِ لتواصُلِكُم معنَا واهتمامِكُم بمعاناتِنَا ...

الوسوم

رابط مختصر : https://actionpal.org.uk/ar/post/16792