map
RSS instagram youtube twitter facebook Google Paly App stores

عدد الضحايا

حتى اليوم

4256

بودكاست قصة من المخيم بعنوان أمُّ حسّانَ وتَبِعاتُ لمِّ الشملِ والانتظار 1

تاريخ النشر : 28-04-2022
بودكاست قصة من المخيم بعنوان أمُّ حسّانَ وتَبِعاتُ لمِّ الشملِ والانتظار 1

|مجموعة العمل | لندن|

ربما يكونُ قلبُ المرأةِ أحياناً يعادلُ قلبَ الرجلِ أضعافاً، وذلكَ حينما تواجِهُ جسارةَ الحياةِ بإرادةٍ قوية، كي تتغلبَ على الظروفِ الراهنةِ وتصلَ دُفَّة الأمانِ والطمأنينة..

فلسطينياتُ سوريةَ كُنَّ أنموذجاً لهذا الكلام، فالحربُ خطفَتْ مِنهُنَّ الكثير، وألقَتْ بعبئِها الثقيلِ على فِلذاتِ أكبادِهِنَّ بمظاهرَ متنوعةٍ كالموتِ والاعتقالِ والفراقِ والاختطاف..

أمُّ حسّان، 58ثمانيةٌ وخمسونَ عاماً من مخيمِ فلسطينَ في دمشق، واحدةٌ من الناسِ الذينَ يعانونَ من ضَراوةِ الفِراقِ والبعدِ ومن أشياءَ كثيرةٍ ستحدِّثُنَا عنها في هذهِ الحكاية، وهيَ تسكنُ حالياً في ضواحي دورتموند في ألمانيا، التقينَا بها وأنصتْنَا إليها وهي تتنهَّدُ في حديثِهَا الخاصِّ لمجموعةِ العمل: أبدأُ بالحديثِ عن قلبيَ الذي يعتصرُ ألماً بسببِ تشتُّتِ أبنائي وبناتي على هذهِ الأرض، وما كُنَّا إلا عائلةً واحدةً تحتَ سقفٍ واحد، حتَّى بعدَ زواجِ بعضِهِم كنَّا قريبينَ من بعضِنَا البعضِ جغرافياً و نفسيّاً، حيثُ كنَّا معتادينَ على ما نسمِّيهِ نحنُ ( لمّة الجُمعة)، وهيَ عبارةٌ عن اجتماعٍ عائليٍّ في منزلِ أحدِنَا بعدَ كلِّ صلاةِ جمعة، بحيثُ يستمرُّ هذا اللقاءُ حتى المساء، نتناولُ الطعامَ ونجلسُ ونتحدثُ ثمَّ ينفضُّ كلُّ واحدٍ منا إلى عمَلِهِ وشُغْلِهِ حتى يومِ الجمعةِ القادمِ لنعودَ ونلتقي من جديد .. الآباءُ والأبناءُ والأحفادُ والأصهارُ وزوجاتُ الأبناء..

لديَّ أربعةُ 4 أبناءٍ وابنتان، كُلُّهم متزوجونَ إلا ابنيَ الأصغر، وهؤلاءِ النَّفرُ الستةُ متوزعونَ على أربعةِ بلدانٍ يا رعاكَ الله: سوريةَ حيثُ ابني الأكبر، ومصرَ حيثُ ولَدايَ الأصغران، وألمانيا حيث أنا وزوجيَ وابنيَ الذي يسكنُ في ذاتِ المدينةِ وابنتي أيضاً، وهولندا حيثُ ابنتيَ الصغرى المتزوجةُ هناك..

هذا التباعدُ هوَ الذي يجعلُنِي أشعرُ بالفراغِ الكبير، ولكنَّ العزاءَ الوحيدَ هوَ أنَّ أغلبَ العائلاتِ تعاني من ذاتِ المُعضلةِ بعدَمَا شَتَّتها الحربُ في كافةِ أرجاءِ المعمورة، لكنَّهُ صعبٌ على الأمِّ أن تحضرُ حفلَ زفافِ ابنِها عن طريقِ خدمةِ الأونلاين، ومن خلالِ الواتس والفيسبوك، وأن تتعرَّفَ على زوجَتِهِ فقط عن طريقِ وسائلِ التواصلِ الاجتماعي، بعيداً عن الأجواءِ العائليةِ المليئةِ بالفرحِ والسرورِ والتعارف، فلا يوجدُ عندَ الأمِّ شيءٌ أكثرُ أهميّةً من رؤيَتِها ابنِها عريساً إلى جوارِهِ عروسِهُ التي لم ترَها ولم تعرِفهَا إلا عن طريقِ الإنترنت، وهذا الأمرُ لم يحدثْ مرةً واحدةً فقط كي يستطيعَ القلبُ لملمةَ الجِراحِ على سبيلِ المثال؛ بل حدثَ مرّتينِ اثنتين، الأولى عندَمَا تزوّجَ ابنيَ في دمشقَ وكنتُ آنذاكَ قدْ وصلتُ إلى ألمانيا، والثانيةَ حينَ تزوَّجَ ابنيَ الآخرُ في مصرَ ولمْ نتمكنْ من تأمينِ الفيزا للوصولِ إلى هناكَ ومشارَكَتَهُ فرحةَ عمرِه، وذلكَ بسببِ الإجراءاتِ الشديدةِ التي تفرضُهَا الحكومةُ المصريةُ على السوريينَ والفلسطينيينَ المقيمينَ في سوريةَ والذينَ يخضعونَ للقوانينِ ذاتِها، وبالتالي حُرِمنا من مشاركَتِهِ حفلَةَ الزفاف، ويبدو أنَّ هذا النوعَ الجديدَ من المشارِكةِ في أعراسِ الأبناءِ في طريقهِ للحدوثِ مرةً ثالثةً بعدَ عزْمِ ابنيَ الأصغرِ على الزواجِ في مصر، وعدمِ قدرَتِنَا للذهابِ إلى هناك، ولا أملكُ في ظلِّ هذا التشتتِ إلا الدعاءَ لنا ولجميعِ المُتَباعدينَ بأنْ يلمَّ اللهُ شملَنَا من جديدٍ كي نستعيدَ جمالَ الحياة ..

هذا كُلُّهُ أوّلاً، أمّا ثانياً فإنني سأحدِّثُكَ عن مأساةِ الطريقِ إلى أوروبا، حيثُ إنني لا أعلمُ كيفَ تجرَّأتِ الأسرةُ آنذاكَ لاتخاذِ قرارٍ سريعٍ بالهجرةِ من سوريةَ نحوَ أوروبا، بعدَ تردّي الأوضاعِ الأمنيةِ في دمشق، وتضييقِ الخناقِ على الفلسطينيينَ هناكَ إثْرَ مأساةِ مخيمِ اليرموكِ التي أرْخَتْ بظلالِهَا على الفلسطينيِّ في كافةِ الأرجاءِ السورية، ولأنَّ أبنائيَ وزوجي لا يستطيعونَ التحركَ في المحافظاتِ خشيةَ الاعتقال، فقد اُتّخِذَ قرارٌ خاطئٌ لم أشعرْ بخطئِهِ إلا فيما بعد، وهذا القرارُ اقتضى بأنْ أهاجرَ أنا المرأةُ التي فاقتِ الخامسةَ والخمسينَ 55 من عمرِها، بصحبةِ اثنينِ من أحفادي، ابنِ ابني وابنِ ابنتي، من أجلِ لمَّ الشملِ لثلاثِ عائلات، لزوجيَ ولابني ولابنتي، وعلى وجهِ السرعةِ تمَّ اتخاذُ القرارِ والبدءُ بالإجراءاتِ حيثُ أخذتُ حفيدَيَّ وسلكتُ طريقَ اللاذقيةِ ومِن هناكَ كانَ الشخصُ المسؤولُ عن إيصالِنَا إلى تركيا ينتظرُنَا أمامَ الجامعة، وعلى الفورِ ركبْنَا في باصٍ مُفيّمٍ سلكَ طريقَ الباديةِ باتجاهِ الشمالِ مقابلَ مبلغٍ قدرُهُ مئتانَ وخمسونَ 250 ألف ليرةٍ سوريةٍ في ذلكَ الوقت، حيثُ كانَ الدولارُ بمئةٍ وخمسينَ ليرةً سورية ..

الرحلةُ كانت مقبولةً إلى حينِ أنْ وصلنَا إلى الحدودِ السوريةِ التركية، وهنا كانَ علينا أن نركضَ مسافةَ كيلو مترٍ تقريباً وهذا ما لا أستطيعُهُ ولكنَّني مضطرة، فأمسكتُ بحفيدَيَّ وانطلقنَا معَ المجموعةِ نركضُ ونهرولُ ولكنَّنَا لم نُوفَّق، حيثُ ألقى حرسُ الحدودِ القبضَ علينا وساقَنَا إلى ساحةٍ كبيرةٍ مفروشةٍ بالحصى وبدأَ ينهالُ علينا بالتوبيخ..

كانتْ ليلةً عصيبةً حينَ نمتُ مع حفيدَيَّ على الحَصى في تلكِ الساحةِ وبينَ الرجالِ والغرباء، أضعُ تحت رأسيَ الحذاءَ بدلاً من الوسادة، لا طعامَ ولا شرابَ إلا بشقِّ الأنفس، لهذا أدركتُ وقتَها أنَّ ذلكَ القرارَ كانَ خاطئاً ولم يكنْ مطلوباً من امرأةٍ بعمري وبهذا الوضعِ أن تصطحِبَ معَهَا طفلينِ صغيرينِ وتغامرَ هذهِ المغامرةً التي تحتاجُ إلى رجالٍ وشبابٍ أشدّاء.. بدأَ النَّدمُ يأكلُ ضميري لأنَّنا تكبَّدنا كلَّ هذهِ المشقَّةِ ولمْ نصلْ بَعْدُ إلى تلكِ البُقعةِ الجغرافيةِ المُسمّاةِ أوروبا، بلْ مازلنا في بدايةِ المشوار، فالبحرُ ما يزالُ ينتظرُنا، وسفنُ اليونانِ وغاباتُ هنغاريا كذلك..

تمَّ الإفراجُ عنَّا صبيحةَ اليومِ التالي وأعادُونا إلى سورية، لنعاودَ الكرّةَ وننجحَ في الوصولِ إلى أنطاكية، ومن هناكَ ركبنَا الحافلاتِ وتوجَّهنَا إلى إزميرَ لتبدأَ مرحلةُ مفاوضاتِ المهرِّبينَ وتجَّارِ الدِّماءِ هناك، ولا أعلمُ كيفَ منحَ اللهُ لحفيدَيَّ كلَّ هذا التحمُّلَ والصَّبرَ وهما طفلانِ صغيرانِ لا تليقُ بهما سوى المراجيحُ والحدائق..

ركبْنَا البحرَ في زورقِ المطاطِ ستَّ 6 ساعاتٍ، والخوفُ والقلقُ يسيطرانِ علينا جميعاً.. يا الله!! كيفُ نغامرُ بأنفُسِنَا وأطفالِنَا هذهِ المغامرة؟!! ماذا سنقولُ للهِ عندَما يسألُنَا عن هذهِ الأطفالِ كيفَ تضعونَهم في هذا الزورقِ الذي لا يقوَى على مواجهةِ الأمواج؟!! ولو أُعيدَ الزمنُ إلى الوراءِ فلنْ أخطوَ هكذا خطوةً ولنْ أغامرَ كلَّ هذهِ المغامرةِ حتى لو كانَ الثمنُ هوَ الوصولُ لأهمِّ بقعةٍ في هذهِ الأرض..

وصلنَا الجزيرةَ اليونانيةَ وكانَ علينا أن نمشيَ ستَّ 6 ساعاتٍ كي نصلَ إلى أوَّلِ كائنٍ حيٍّ عليها، ولو أنكَ رأيتَنَا لأشفقتَ علينا.. تعبٌ وإعياءٌ وإرهاقٌ لا مثيلَ له، والأطفالُ يستصرخونَ جوعاً وتعباً والأفقُ مسدود، وقد أُصيبَت قدمي أثناءَ الزَّحفِ بتشنُّجٍ عضليٍّ أُعاني منهُ حتى هذا اليوم، إذ إنني لا أستطيعُ الوقوفَ عليها أكثرَ من ربعِ ساعة، وكنتُ كلما يتصلُ بي أبنائي للاطمئنانِ علينا، أنهالُ عليهم بالصراخِ والملامةِ لأنَّهم همْ أصحابُ هذا المشروع، ولم يكنْ لديهم من جوابٍ آنذاكَ سوى مشاركَتِي في مشاعرِ الندم، والشدِّ من عزيمَتي وإرادتي..

وبالفعلِ سلكتُ الطريقَ ذاتَهُ الذي سلَكَهُ بقيةُ النَّاس، حيثُ تمَّ إلقاءُ القبضِ علينا من قبلِ حرسِ الحدودِ في هنغاريا، حيثُ تمَّ اقتيادُنا إلى السجنِ وأجبرونا على تقديمِ بصمةِ اللجوءِ هناك، بحيثُ لا تقبلُ بكَ أيّةُ دولةٍ أوروبيةٍ باستثناءِ ألمانيا التي وصلنَا إليها بعدَ سبعةَ عشرَ 17 يوماً من مغادرَتي دمشق، هي الأيامُ الأصعبُ في حياتي كلِّها دونَ استثناء، لا أنساهَا ما حييتُ إذ تركَتْ في نفسيَ سيِّءَ الأثرِ بعدَ جولاتِ التعبِ والإرهاقِ والإهانةِ في بعضِ الأحيان..

سأحدِّثُكُم في الحلقةِ القادمةِ إن شاءَ اللهُ عن فصلٍ جديدٍ بعدَ وصولِنَا ألمانيا..

حتّى ذلكَ الحينِ لكمْ منّي أطيبَ الأمنياتِ والدعواتِ بأنْ يجمعَ اللهُ شملَ المُحِبّينَ وكلَّ الذينَ يعانونَ من ألمِ التغرُّبِ والفراق..

الوسوم

رابط مختصر : https://actionpal.org.uk/ar/post/17167

|مجموعة العمل | لندن|

ربما يكونُ قلبُ المرأةِ أحياناً يعادلُ قلبَ الرجلِ أضعافاً، وذلكَ حينما تواجِهُ جسارةَ الحياةِ بإرادةٍ قوية، كي تتغلبَ على الظروفِ الراهنةِ وتصلَ دُفَّة الأمانِ والطمأنينة..

فلسطينياتُ سوريةَ كُنَّ أنموذجاً لهذا الكلام، فالحربُ خطفَتْ مِنهُنَّ الكثير، وألقَتْ بعبئِها الثقيلِ على فِلذاتِ أكبادِهِنَّ بمظاهرَ متنوعةٍ كالموتِ والاعتقالِ والفراقِ والاختطاف..

أمُّ حسّان، 58ثمانيةٌ وخمسونَ عاماً من مخيمِ فلسطينَ في دمشق، واحدةٌ من الناسِ الذينَ يعانونَ من ضَراوةِ الفِراقِ والبعدِ ومن أشياءَ كثيرةٍ ستحدِّثُنَا عنها في هذهِ الحكاية، وهيَ تسكنُ حالياً في ضواحي دورتموند في ألمانيا، التقينَا بها وأنصتْنَا إليها وهي تتنهَّدُ في حديثِهَا الخاصِّ لمجموعةِ العمل: أبدأُ بالحديثِ عن قلبيَ الذي يعتصرُ ألماً بسببِ تشتُّتِ أبنائي وبناتي على هذهِ الأرض، وما كُنَّا إلا عائلةً واحدةً تحتَ سقفٍ واحد، حتَّى بعدَ زواجِ بعضِهِم كنَّا قريبينَ من بعضِنَا البعضِ جغرافياً و نفسيّاً، حيثُ كنَّا معتادينَ على ما نسمِّيهِ نحنُ ( لمّة الجُمعة)، وهيَ عبارةٌ عن اجتماعٍ عائليٍّ في منزلِ أحدِنَا بعدَ كلِّ صلاةِ جمعة، بحيثُ يستمرُّ هذا اللقاءُ حتى المساء، نتناولُ الطعامَ ونجلسُ ونتحدثُ ثمَّ ينفضُّ كلُّ واحدٍ منا إلى عمَلِهِ وشُغْلِهِ حتى يومِ الجمعةِ القادمِ لنعودَ ونلتقي من جديد .. الآباءُ والأبناءُ والأحفادُ والأصهارُ وزوجاتُ الأبناء..

لديَّ أربعةُ 4 أبناءٍ وابنتان، كُلُّهم متزوجونَ إلا ابنيَ الأصغر، وهؤلاءِ النَّفرُ الستةُ متوزعونَ على أربعةِ بلدانٍ يا رعاكَ الله: سوريةَ حيثُ ابني الأكبر، ومصرَ حيثُ ولَدايَ الأصغران، وألمانيا حيث أنا وزوجيَ وابنيَ الذي يسكنُ في ذاتِ المدينةِ وابنتي أيضاً، وهولندا حيثُ ابنتيَ الصغرى المتزوجةُ هناك..

هذا التباعدُ هوَ الذي يجعلُنِي أشعرُ بالفراغِ الكبير، ولكنَّ العزاءَ الوحيدَ هوَ أنَّ أغلبَ العائلاتِ تعاني من ذاتِ المُعضلةِ بعدَمَا شَتَّتها الحربُ في كافةِ أرجاءِ المعمورة، لكنَّهُ صعبٌ على الأمِّ أن تحضرُ حفلَ زفافِ ابنِها عن طريقِ خدمةِ الأونلاين، ومن خلالِ الواتس والفيسبوك، وأن تتعرَّفَ على زوجَتِهِ فقط عن طريقِ وسائلِ التواصلِ الاجتماعي، بعيداً عن الأجواءِ العائليةِ المليئةِ بالفرحِ والسرورِ والتعارف، فلا يوجدُ عندَ الأمِّ شيءٌ أكثرُ أهميّةً من رؤيَتِها ابنِها عريساً إلى جوارِهِ عروسِهُ التي لم ترَها ولم تعرِفهَا إلا عن طريقِ الإنترنت، وهذا الأمرُ لم يحدثْ مرةً واحدةً فقط كي يستطيعَ القلبُ لملمةَ الجِراحِ على سبيلِ المثال؛ بل حدثَ مرّتينِ اثنتين، الأولى عندَمَا تزوّجَ ابنيَ في دمشقَ وكنتُ آنذاكَ قدْ وصلتُ إلى ألمانيا، والثانيةَ حينَ تزوَّجَ ابنيَ الآخرُ في مصرَ ولمْ نتمكنْ من تأمينِ الفيزا للوصولِ إلى هناكَ ومشارَكَتَهُ فرحةَ عمرِه، وذلكَ بسببِ الإجراءاتِ الشديدةِ التي تفرضُهَا الحكومةُ المصريةُ على السوريينَ والفلسطينيينَ المقيمينَ في سوريةَ والذينَ يخضعونَ للقوانينِ ذاتِها، وبالتالي حُرِمنا من مشاركَتِهِ حفلَةَ الزفاف، ويبدو أنَّ هذا النوعَ الجديدَ من المشارِكةِ في أعراسِ الأبناءِ في طريقهِ للحدوثِ مرةً ثالثةً بعدَ عزْمِ ابنيَ الأصغرِ على الزواجِ في مصر، وعدمِ قدرَتِنَا للذهابِ إلى هناك، ولا أملكُ في ظلِّ هذا التشتتِ إلا الدعاءَ لنا ولجميعِ المُتَباعدينَ بأنْ يلمَّ اللهُ شملَنَا من جديدٍ كي نستعيدَ جمالَ الحياة ..

هذا كُلُّهُ أوّلاً، أمّا ثانياً فإنني سأحدِّثُكَ عن مأساةِ الطريقِ إلى أوروبا، حيثُ إنني لا أعلمُ كيفَ تجرَّأتِ الأسرةُ آنذاكَ لاتخاذِ قرارٍ سريعٍ بالهجرةِ من سوريةَ نحوَ أوروبا، بعدَ تردّي الأوضاعِ الأمنيةِ في دمشق، وتضييقِ الخناقِ على الفلسطينيينَ هناكَ إثْرَ مأساةِ مخيمِ اليرموكِ التي أرْخَتْ بظلالِهَا على الفلسطينيِّ في كافةِ الأرجاءِ السورية، ولأنَّ أبنائيَ وزوجي لا يستطيعونَ التحركَ في المحافظاتِ خشيةَ الاعتقال، فقد اُتّخِذَ قرارٌ خاطئٌ لم أشعرْ بخطئِهِ إلا فيما بعد، وهذا القرارُ اقتضى بأنْ أهاجرَ أنا المرأةُ التي فاقتِ الخامسةَ والخمسينَ 55 من عمرِها، بصحبةِ اثنينِ من أحفادي، ابنِ ابني وابنِ ابنتي، من أجلِ لمَّ الشملِ لثلاثِ عائلات، لزوجيَ ولابني ولابنتي، وعلى وجهِ السرعةِ تمَّ اتخاذُ القرارِ والبدءُ بالإجراءاتِ حيثُ أخذتُ حفيدَيَّ وسلكتُ طريقَ اللاذقيةِ ومِن هناكَ كانَ الشخصُ المسؤولُ عن إيصالِنَا إلى تركيا ينتظرُنَا أمامَ الجامعة، وعلى الفورِ ركبْنَا في باصٍ مُفيّمٍ سلكَ طريقَ الباديةِ باتجاهِ الشمالِ مقابلَ مبلغٍ قدرُهُ مئتانَ وخمسونَ 250 ألف ليرةٍ سوريةٍ في ذلكَ الوقت، حيثُ كانَ الدولارُ بمئةٍ وخمسينَ ليرةً سورية ..

الرحلةُ كانت مقبولةً إلى حينِ أنْ وصلنَا إلى الحدودِ السوريةِ التركية، وهنا كانَ علينا أن نركضَ مسافةَ كيلو مترٍ تقريباً وهذا ما لا أستطيعُهُ ولكنَّني مضطرة، فأمسكتُ بحفيدَيَّ وانطلقنَا معَ المجموعةِ نركضُ ونهرولُ ولكنَّنَا لم نُوفَّق، حيثُ ألقى حرسُ الحدودِ القبضَ علينا وساقَنَا إلى ساحةٍ كبيرةٍ مفروشةٍ بالحصى وبدأَ ينهالُ علينا بالتوبيخ..

كانتْ ليلةً عصيبةً حينَ نمتُ مع حفيدَيَّ على الحَصى في تلكِ الساحةِ وبينَ الرجالِ والغرباء، أضعُ تحت رأسيَ الحذاءَ بدلاً من الوسادة، لا طعامَ ولا شرابَ إلا بشقِّ الأنفس، لهذا أدركتُ وقتَها أنَّ ذلكَ القرارَ كانَ خاطئاً ولم يكنْ مطلوباً من امرأةٍ بعمري وبهذا الوضعِ أن تصطحِبَ معَهَا طفلينِ صغيرينِ وتغامرَ هذهِ المغامرةً التي تحتاجُ إلى رجالٍ وشبابٍ أشدّاء.. بدأَ النَّدمُ يأكلُ ضميري لأنَّنا تكبَّدنا كلَّ هذهِ المشقَّةِ ولمْ نصلْ بَعْدُ إلى تلكِ البُقعةِ الجغرافيةِ المُسمّاةِ أوروبا، بلْ مازلنا في بدايةِ المشوار، فالبحرُ ما يزالُ ينتظرُنا، وسفنُ اليونانِ وغاباتُ هنغاريا كذلك..

تمَّ الإفراجُ عنَّا صبيحةَ اليومِ التالي وأعادُونا إلى سورية، لنعاودَ الكرّةَ وننجحَ في الوصولِ إلى أنطاكية، ومن هناكَ ركبنَا الحافلاتِ وتوجَّهنَا إلى إزميرَ لتبدأَ مرحلةُ مفاوضاتِ المهرِّبينَ وتجَّارِ الدِّماءِ هناك، ولا أعلمُ كيفَ منحَ اللهُ لحفيدَيَّ كلَّ هذا التحمُّلَ والصَّبرَ وهما طفلانِ صغيرانِ لا تليقُ بهما سوى المراجيحُ والحدائق..

ركبْنَا البحرَ في زورقِ المطاطِ ستَّ 6 ساعاتٍ، والخوفُ والقلقُ يسيطرانِ علينا جميعاً.. يا الله!! كيفُ نغامرُ بأنفُسِنَا وأطفالِنَا هذهِ المغامرة؟!! ماذا سنقولُ للهِ عندَما يسألُنَا عن هذهِ الأطفالِ كيفَ تضعونَهم في هذا الزورقِ الذي لا يقوَى على مواجهةِ الأمواج؟!! ولو أُعيدَ الزمنُ إلى الوراءِ فلنْ أخطوَ هكذا خطوةً ولنْ أغامرَ كلَّ هذهِ المغامرةِ حتى لو كانَ الثمنُ هوَ الوصولُ لأهمِّ بقعةٍ في هذهِ الأرض..

وصلنَا الجزيرةَ اليونانيةَ وكانَ علينا أن نمشيَ ستَّ 6 ساعاتٍ كي نصلَ إلى أوَّلِ كائنٍ حيٍّ عليها، ولو أنكَ رأيتَنَا لأشفقتَ علينا.. تعبٌ وإعياءٌ وإرهاقٌ لا مثيلَ له، والأطفالُ يستصرخونَ جوعاً وتعباً والأفقُ مسدود، وقد أُصيبَت قدمي أثناءَ الزَّحفِ بتشنُّجٍ عضليٍّ أُعاني منهُ حتى هذا اليوم، إذ إنني لا أستطيعُ الوقوفَ عليها أكثرَ من ربعِ ساعة، وكنتُ كلما يتصلُ بي أبنائي للاطمئنانِ علينا، أنهالُ عليهم بالصراخِ والملامةِ لأنَّهم همْ أصحابُ هذا المشروع، ولم يكنْ لديهم من جوابٍ آنذاكَ سوى مشاركَتِي في مشاعرِ الندم، والشدِّ من عزيمَتي وإرادتي..

وبالفعلِ سلكتُ الطريقَ ذاتَهُ الذي سلَكَهُ بقيةُ النَّاس، حيثُ تمَّ إلقاءُ القبضِ علينا من قبلِ حرسِ الحدودِ في هنغاريا، حيثُ تمَّ اقتيادُنا إلى السجنِ وأجبرونا على تقديمِ بصمةِ اللجوءِ هناك، بحيثُ لا تقبلُ بكَ أيّةُ دولةٍ أوروبيةٍ باستثناءِ ألمانيا التي وصلنَا إليها بعدَ سبعةَ عشرَ 17 يوماً من مغادرَتي دمشق، هي الأيامُ الأصعبُ في حياتي كلِّها دونَ استثناء، لا أنساهَا ما حييتُ إذ تركَتْ في نفسيَ سيِّءَ الأثرِ بعدَ جولاتِ التعبِ والإرهاقِ والإهانةِ في بعضِ الأحيان..

سأحدِّثُكُم في الحلقةِ القادمةِ إن شاءَ اللهُ عن فصلٍ جديدٍ بعدَ وصولِنَا ألمانيا..

حتّى ذلكَ الحينِ لكمْ منّي أطيبَ الأمنياتِ والدعواتِ بأنْ يجمعَ اللهُ شملَ المُحِبّينَ وكلَّ الذينَ يعانونَ من ألمِ التغرُّبِ والفراق..

الوسوم

رابط مختصر : https://actionpal.org.uk/ar/post/17167