map
RSS instagram youtube twitter facebook Google Paly App stores

عدد الضحايا

حتى اليوم

4256

بودكاست قصة من المخيم "المدرّسُ بينَ شرفِ المهنةِ والتحدياتِ الأمنية" (1)

تاريخ النشر : 13-08-2022
بودكاست قصة من المخيم "المدرّسُ بينَ شرفِ المهنةِ والتحدياتِ الأمنية" (1)

|مجموعة العمل| لندن|

هناكَ في إحدى ضواحي جنوبَ هولندا، وعلى حينِ غفلةٍ من الزمن، التقينَا معهُ لنشاهدَ التباينَ الواضحَ والتضاربَ الصريحَ بينَ شَوطينِ من حياتِه، لكلِّ شوطٍ منهما صفاتُهُ التي تُغايرُ الشوطَ الثاني جُملةً وتفصيلاً، فأنْ تعيش حالةً من التناقضِ المطلقِ هوَ أمرٌ مُقلِقٌ للغاية، وبهذا بدأَ حكايَتَهُ معَنا..

أبو ريان، فلسطينيٌّ سوريٌّ من مدينةِ درعا جنوبَ سورية، يحملُ شهادةَ الماجستيرِ في اللغةِ العربية، غادرَ سوريةَ صيفَ عامِ ألفينِ وخمسةَ عشرَ 2015، وبالتحديدِ معَ اندلاعِ عاصفةِ الجنوبِ التي كانتْ قواتُ المعارضةِ تهدفُ من خلالِها آنذاكَ السيطرةَ على أحياءِ مدينةِ درعا التي كانتْ في حوزةِ السلطات السورية، وبينَما كانتِ الحربُ مشتعلةً بينَ الطّرفينِ حزمَ أبو ريان أمتعَتَهُ قاصداً وجهَ اللهِ الكريم، رفْقةَ زوجتِهِ وأطفالِهِ الثلاثة، حيثُ يقولُ أبو ريان في حديثهِ الخاصِّ لمجموعةِ العمل: "عملتُ مدرّساً لمادةِ اللغةِ العربيةِ في أريافِ درعا مدةَ عشرِ سنوات، وكنتُ أحبُّ مهنتي حُبّاً عرمرماً، إذْ إنني من هواةِ اللغةِ العربيةِ مذْ كنتُ طالباً، ومعَ اندلاعِ الأحداث في سوريةِ وبدءِ حملاتِ اللجوءِ والهجرةِ نحوَ أوروبا، كنتُ من أوائلِ الرافضينَ لهذهِ الهجرة، فكثيراً ما كنتُ أنصحُ رفاقي وكلَّ مَنْ كانَ يفكرُ بالرحيل، بضرورةِ العدولِ عن قرارِهِ، وعدمِ تركِ البلادِ والعباد، لدرجةِ أنني كنتُ أتهكَّمُ على المغادرين، وكانَ آخرَهُم شقيقي الذي غادرَ قبلي بنحوِ سنةٍ ونصفٍ باتجاهِ أوروبا، ولكنَّني لم أكنْ على درايةٍ بأنني سأكونُ من أوائلِ المُلتحقينَ بركْبِ المهاجرين ..

في الشهرِ الأولِ من عامِ ألفينِ وخمسةَ عشرَ  2015 تم استدعائي من قِبلِ مديرِ التربيةِ، وإبلاغي بضرورةِ أن أستلمِ إدارةَ الثانويةِ التي كُنتُ أُدرِّسُ فيها، ورغمَ رفضي ذلك إلا أنّهُ أصرَّ على ذلكِ بذريعةِ أنّ شهادتي الجامعيةَ هي الأعلى بينَ شهاداتِ الكادرِ العاملِ في الثانوية، والقانونُ لا يسمحُ أن يستلمَ الإدارةَ مُدرّسٌ وهناكَ مَن هو يملكُ شهادةً جامعيةً أعلى من شهادتِهِ، وبالتالي لا مَفرَّ أمامي، لكنَّني استغثتُ بالموجِّهِ المختصِّ الذي لا أرغبُ في تحديدِ اسمه، كي يخبرَ مديرَ التربيةِ بأنَّ سلكَ التدريسِ من مصلحتِهِ أن يَبقى هذا المدرِّس، فرأيُ الموجهِ لهُ ضرورةٌ مهمة، وبالفعلِ تواصَلَ الموجّهُ معَ مديرِ التربيةِ ولكنْ دونَ جدوى، وذلكَ حينَ أخبرَهُ بأنَّ القرارَ هو قرارُ الحزبِ لأنَّ الإداريّينَ تصدرُ قراراتُهم من شُعبةِ الحزبِ وليسَ من مديريةِ التربية، وعليَّ أن أباشرَ في مهنتي الجديدةِ اعتباراً من صباحِ اليومِ التالي .

كنتُ متخوّفاً من هذا الدور، ليسَ هروباً من المسؤولية، بل لأنَّ المرحلةَ التي تمرُّ بها البلادُ لا تسمحُ بتقلُّدِ المناصبِ لأنكَ ستجدُ نفسَكَ بينَ نارَينِ ولن تستطيعَ أن تَسْلَمَ من الأطرافِ المتنازعةِ هناك، لأنَّ النظامَ سيُحذِّرُكَ من الاحتكاكِ معَ المعارضة، والمعارضةُ ستنظرُ إليكَ بعينِ الشكِّ كونَكَ ممنْ يرضى عنهمُ حزبُ البعث، ولو لم يكنْ كذلكَ لَمَا تمَّ تعيّينُكَ مديراً للثانوية، بالإضافةِ إلى أنَّ ضبطَ الثانويةِ ليسَ بالأمرِ اليسيرِ في ظلِّ الفلتانِ الأمنيِّ وانضمامِ بعضِ الطُّلابِ إلى اللجانِ الشعبيةِ التي كانتْ تشاركُ في القتالِ إلى جانبِ النظامِ السوري، لكنّني باشرتُ عملي وسطَ صعوباتٍ كبيرةٍ، وهنا سأُحدِّثُكم عن سببينِ اثنينِ هُما اللذانِ دفعاني إلى الخروجِ من البلدِ دونَ تردُّد ..

الحادثةُ الأولى: عندما أردْتُ أن أُحصيَ عددَ الطُّلابِ في الثانوية، راعَني بعضُ الطلبةِ بأنَّ أسماءَهُم موجودةٌ في سجلِ الحضورِ لكنِّهم غيرُ متواجدينِ في الثانوية، وبدوري كمديرٍ للثانويةِ سألتُ الزملاءَ عنهُم فقالُوا لي إنَّ هؤلاءِ لا نعرفِ عنهم شيئاً سوى أنهم متطوعونَ في صفوفِ اللجانِ الشعبيةِ.. قالوا هذهِ الكلماتِ وسطَ حالةٍ من الارتباكِ بدَتْ واضحةً عليهم، لكنَّني كتبْتُ إنذاراً بأسمائِهم يحمِلُ مهلةً لمدةِ أسبوعٍ كي يتواصلوا معَ الثانويةِ لتبريرِ الغيابِ أو سوفَ يتمُّ فَصلُهُم، وعلَّقتُ الإنذارَ في لوحةِ إعلاناتِ الثانويةِ لعلَّ الخبرَ يصلُ إليهم فيستجيبوا ويأتوا إلى الثانوية ..

وما هي إلا بضعةُ أيامٍ حتى دخلَ عليَّ فجأةً شابٌ يافعٌ ذو لحيةٍ طويلةٍ يعرُجُ في قدمِهِ اليمنى ويسيرُ على عُكّازةٍ تساعدُهُ على المشي، فعرّفَ عن نفسِهِ بأسلوبٍ مُتعجرف، لأدركَ أنَّهُ أحدُ الطلبةِ الواردةِ أسماؤهم في الإنذار، وجرى بينَنا الحوارُ التالي:

- وينك يا محمد ليش ما عم بتداوم بالمدرسة.

- أنا متطوع في اللجان الشعبية وحالياً عم نشارك بمعركة الشيخ مسكين وهاي إجري متصاوبة..

- طيب الله يعافيك، بس ودوامك بالثانوية كمان ضروري جداً مشان مستقبلك..

- بس الدفاع عن الوطن أهم من الثانوية والدراسة..

- بتوقع انو الجيش قادر على المواجهة والأمور رح اتكون تمام، لهيك لازم اتداوم يا محمد.

- بصفتك شو عم تمنعني أدافع عن الوطن؟!!

- أنا ما عم أمنعك، أصلاً لا الوطن ولا قائد الوطن بيقبل انك تترك دراستك.. كل واحد إلو دوره يا محمد في بناء هالوطن، الجندي بقاتل وانت بتتعلم وأنا بدرّس والعامل يبني وهيك الوطن بكمّل بعضو البعض ..

وامتد الحوار حوالي خمسة وعشرينَ 25 دقيقةً ليستشيطَ الطالبُ غضباً في نهايةِ المطافِ ويقولُ لي إنه مُصرٌّ على المشاركةِ في القتالِ إلى جانبِ قواتِ النظام، وإنّهُ من واجبي أن أعتبرَهُ من الناجحينَ وأن تصلَ شهادةُ نجاحِهِ إلى البيتِ وإلا فإنَّ الثانويةَ بأكمَلِها سوفُ تدفعُ الثمن، ثم انصرفَ غاضباً..

نظرتُ إلى وجوهِ زملائي الذينَ حضروا الجلسة، فرأيتُها مليئةً بالخوفِ والسخطِ عليَّ لأنني لمْ أستمعْ لنصائِحِهم في البداية، والتي وَجَّهتْ إلى ضرورةِ تجاهلِ هذهِ الأسماءِ لأنَّ ذلكَ يُشكِّلُ خطراً علينا جميعاً، لكنَّني أصدرْتُ القرارَ بضرورةِ أن يُفصَلَ هذا الطالبُ لتطاوُلِهِ على المدرِّسين، ثم اتصلتُ بمعاونِ مديرِ التربيةِ وأخبرْتُهُ بما جرى بيني وبينَ الطالب، وإذْ بهِ يُفاجِئُني بالقول: بلّشنا مشاكل يا أستاذ، ما صرلك أسبوع.... وكأنَّهُ يتبرّأُ منِّي أو يُحمِّلُني المسؤولية، وعندما حاولتُ توضيحَ حجمِ الإهانةِ التي تلقيناهَا من هذا الطالبِ أخبرَنِي أنَّ مثلَ هذا النوعِ من المشاكلِ هو من اختصاصِ المخفرِ وليسَ اختصاصَ مديريةِ التربية، ثم اختصرَ المكالمةَ وأغلقَ سمّاعةَ الهاتف، لأُدركَ كافةَ خيوطِ اللعبةِ التي لا يُمكنُ تلخيصُها سوى بالعنوانِ التالي (دبِّر راسك)..

أقلقَتْني هذهِ القصةُ حقيقةً، وتوجَّهتُ إلى المخفرِ لأعُرِّفَ عن نفسي وأخبرَهُم بما جرى، فقال لي رئيسُ المخفرِ الشابُ إنّهُ ينبغي عليَّ تقديمُ شكوى رسميةٍ ضدَّهُ لدى مكتبِ اللجانِ الشعبيةِ في دمشقَ لمحاسَبَتِهِ على هذا التَّصرُّف، وبالتالي شعرتُ أنَّ المخفرَ هوَ الآخرُ غيرُ مكترثٍ بحمايَتِنَا كمدرّسينَ وعاملينَ في قطاعِ التعليم..

توجَّهتُ إلى المنزل، وأكذبُ لو قُلتُ لَكمْ أنَّني لمْ أَخفْ منْ رَدَّةِ فِعْلِ هذا الطالبِ الذي لا يُشبِهُ الطَّلابَ شكلاً ومضموناً وأخلاقاً..

هل أصبحَ مديرُ الثانويةِ يخشى من طُلَّابِه، ونحنُ الذينَ كُنَّا نُغيّرُ طريقَنَا عندما نرى المديرَ في الشارع؟!!

هل أصبحَ المُدرِّسُ أو المديرُ هوَ الذي يستجدي الحمايةَ بسببِ خلافٍ نشبَ بينَهُ وبينَ أحدِ طلابهِ الُمخالِفِيْن؟!!

كثيرةٌ هيَ الأسئلةُ التي كانتْ تُراوِدُنِي في تلكَ الليلة، ليقطعَ سلسلةَ الأفكارِ هذهِ اتصالٌ على الهاتفِ الأرضيِّ من أحدِ الزُّملاءِ في المدرسةِ الذينَ لديهمْ علاقاتٌ أمنية، ليخبرَني أنَّ شعبةَ الأمنِ القوميِّ في دمشقَ اتصلتْ عليهِ لتسأَلهُ عمَّا جرى وأخذُوا رقمَ هاتفي، ورُبَّما أتلقَّى مِنْهمُ اتصالاً الليلة، لأبيتِ تلكَ الليلةَ في جوارِ الهاتفِ مُرتَجِفَاً أُجهِّزُ ما أُريدُ أن أقولَهُ لَهُم، ولكنَّهم لم يتصلوا، ولم أُخبِرْ أحداً من أفرادِ الأُسرةِ حولَ ما جَرى كيلا أُقلِقَهم، وانتظاراً منِّي كي تتكشَّفَ مُلابساتُ الحادثة ..

اتصلوا في اليومِ التالي على هاتفِ الثانويةِ وتكلَّمُوا معيَ بأسلوبٍ فَوقيٍّ لا يليقُ بي كمدرِّسٍ أو مديرِ ثانوية، ليتطوَّرَ الأمرُ إلى شتائمَ وقدْحٍ واتهامٍ بالخيانةِ للوطن، وتحذيرٍ لي بضرورةِ تفضيلِ مصلحةِ الوطنِ على المصالحِ الضيِّقة، وإنَّهُ كانَ ينبغي عليَّ أن أشكرُ الطالبَ وأحيِّيهِ وأُحيّي حِسَّهُ الوطنيَّ العالي وأكرِّمَهُ أمامَ زملائِهِ والمدرسين، فأنا لمْ أحترمْ إصابَتَهُ ولمْ أُقدِّرْ ما قامَ بهِ دفاعاً عن هذا الوطن، وأَنهى المُتحدِّثُ كلامَهُ بالجملةِ التالية: الطالب ما رح يداوم و هوا ناجح و جلاءتو رح توصل للبيت بالصرماية..

أغلقتُ السماعةَ ليصطَحِبَني أحدُ زملائيَ المقرّبينَ وهوُ بمثابةِ صديق، فقالَ لي على انفراد: نصيحة يا أخي اسحب حالك واهرب من هالبلد لأنو اسمك صار عليه نقطة، و إذا ما بدك تهرب، عالأقل اطلع من مناطق سيطرة النظام و روح عيش بالريف الشرقي عند المعارضة ..

كانَ لهمْ ما أرادوا، فالطالبُ لم يُفصَلْ ولمْ يَحضُر للدوامِ بلْ حضرَ للتشفِّي بنا بعدَ هذا الموقفِ ليدخلَ ويخرجَ إلى الثانويةِ كما يريدُ ومتى يريد .. أدركْتُ وَقتَها أنَّ هذهِ ليستْ ثانويةً بلْ غابة، وهذهِ ليستْ بلداً ذاتَ قانونٍ بل مافياتٌ تحكمُ هذا الشعب، وأدركْتُ أيضاً أنّني وقعتُ ضحيةَ هذهِ المافيات، وبأنّني وأسرتي في خطرٍ محدقٍ إذا ما استمرَّ الحالُ على ما هو عليه ..

تداركْتُ الموقفَ بصعوبةٍ وسطَ حالةٍ كبيرةٍ جداً من الإحراجِ أمامَ الطُّلابِ والزملاء، لأتعرضَ إلى موقفٍ أشدَّ وأصعب، هوَ الذي دفعَني إلى الرحيل، سأُحدِّثُكم عنهُ في الحلقةِ القادمةِ إن شاءَ الله ..

كلَّ الاحترامِ والتقديرِ و نلتقيكم إن شاءَ اللهُ في الأسبوعِ المقبل ..

الوسوم

رابط مختصر : https://actionpal.org.uk/ar/post/17647

|مجموعة العمل| لندن|

هناكَ في إحدى ضواحي جنوبَ هولندا، وعلى حينِ غفلةٍ من الزمن، التقينَا معهُ لنشاهدَ التباينَ الواضحَ والتضاربَ الصريحَ بينَ شَوطينِ من حياتِه، لكلِّ شوطٍ منهما صفاتُهُ التي تُغايرُ الشوطَ الثاني جُملةً وتفصيلاً، فأنْ تعيش حالةً من التناقضِ المطلقِ هوَ أمرٌ مُقلِقٌ للغاية، وبهذا بدأَ حكايَتَهُ معَنا..

أبو ريان، فلسطينيٌّ سوريٌّ من مدينةِ درعا جنوبَ سورية، يحملُ شهادةَ الماجستيرِ في اللغةِ العربية، غادرَ سوريةَ صيفَ عامِ ألفينِ وخمسةَ عشرَ 2015، وبالتحديدِ معَ اندلاعِ عاصفةِ الجنوبِ التي كانتْ قواتُ المعارضةِ تهدفُ من خلالِها آنذاكَ السيطرةَ على أحياءِ مدينةِ درعا التي كانتْ في حوزةِ السلطات السورية، وبينَما كانتِ الحربُ مشتعلةً بينَ الطّرفينِ حزمَ أبو ريان أمتعَتَهُ قاصداً وجهَ اللهِ الكريم، رفْقةَ زوجتِهِ وأطفالِهِ الثلاثة، حيثُ يقولُ أبو ريان في حديثهِ الخاصِّ لمجموعةِ العمل: "عملتُ مدرّساً لمادةِ اللغةِ العربيةِ في أريافِ درعا مدةَ عشرِ سنوات، وكنتُ أحبُّ مهنتي حُبّاً عرمرماً، إذْ إنني من هواةِ اللغةِ العربيةِ مذْ كنتُ طالباً، ومعَ اندلاعِ الأحداث في سوريةِ وبدءِ حملاتِ اللجوءِ والهجرةِ نحوَ أوروبا، كنتُ من أوائلِ الرافضينَ لهذهِ الهجرة، فكثيراً ما كنتُ أنصحُ رفاقي وكلَّ مَنْ كانَ يفكرُ بالرحيل، بضرورةِ العدولِ عن قرارِهِ، وعدمِ تركِ البلادِ والعباد، لدرجةِ أنني كنتُ أتهكَّمُ على المغادرين، وكانَ آخرَهُم شقيقي الذي غادرَ قبلي بنحوِ سنةٍ ونصفٍ باتجاهِ أوروبا، ولكنَّني لم أكنْ على درايةٍ بأنني سأكونُ من أوائلِ المُلتحقينَ بركْبِ المهاجرين ..

في الشهرِ الأولِ من عامِ ألفينِ وخمسةَ عشرَ  2015 تم استدعائي من قِبلِ مديرِ التربيةِ، وإبلاغي بضرورةِ أن أستلمِ إدارةَ الثانويةِ التي كُنتُ أُدرِّسُ فيها، ورغمَ رفضي ذلك إلا أنّهُ أصرَّ على ذلكِ بذريعةِ أنّ شهادتي الجامعيةَ هي الأعلى بينَ شهاداتِ الكادرِ العاملِ في الثانوية، والقانونُ لا يسمحُ أن يستلمَ الإدارةَ مُدرّسٌ وهناكَ مَن هو يملكُ شهادةً جامعيةً أعلى من شهادتِهِ، وبالتالي لا مَفرَّ أمامي، لكنَّني استغثتُ بالموجِّهِ المختصِّ الذي لا أرغبُ في تحديدِ اسمه، كي يخبرَ مديرَ التربيةِ بأنَّ سلكَ التدريسِ من مصلحتِهِ أن يَبقى هذا المدرِّس، فرأيُ الموجهِ لهُ ضرورةٌ مهمة، وبالفعلِ تواصَلَ الموجّهُ معَ مديرِ التربيةِ ولكنْ دونَ جدوى، وذلكَ حينَ أخبرَهُ بأنَّ القرارَ هو قرارُ الحزبِ لأنَّ الإداريّينَ تصدرُ قراراتُهم من شُعبةِ الحزبِ وليسَ من مديريةِ التربية، وعليَّ أن أباشرَ في مهنتي الجديدةِ اعتباراً من صباحِ اليومِ التالي .

كنتُ متخوّفاً من هذا الدور، ليسَ هروباً من المسؤولية، بل لأنَّ المرحلةَ التي تمرُّ بها البلادُ لا تسمحُ بتقلُّدِ المناصبِ لأنكَ ستجدُ نفسَكَ بينَ نارَينِ ولن تستطيعَ أن تَسْلَمَ من الأطرافِ المتنازعةِ هناك، لأنَّ النظامَ سيُحذِّرُكَ من الاحتكاكِ معَ المعارضة، والمعارضةُ ستنظرُ إليكَ بعينِ الشكِّ كونَكَ ممنْ يرضى عنهمُ حزبُ البعث، ولو لم يكنْ كذلكَ لَمَا تمَّ تعيّينُكَ مديراً للثانوية، بالإضافةِ إلى أنَّ ضبطَ الثانويةِ ليسَ بالأمرِ اليسيرِ في ظلِّ الفلتانِ الأمنيِّ وانضمامِ بعضِ الطُّلابِ إلى اللجانِ الشعبيةِ التي كانتْ تشاركُ في القتالِ إلى جانبِ النظامِ السوري، لكنّني باشرتُ عملي وسطَ صعوباتٍ كبيرةٍ، وهنا سأُحدِّثُكم عن سببينِ اثنينِ هُما اللذانِ دفعاني إلى الخروجِ من البلدِ دونَ تردُّد ..

الحادثةُ الأولى: عندما أردْتُ أن أُحصيَ عددَ الطُّلابِ في الثانوية، راعَني بعضُ الطلبةِ بأنَّ أسماءَهُم موجودةٌ في سجلِ الحضورِ لكنِّهم غيرُ متواجدينِ في الثانوية، وبدوري كمديرٍ للثانويةِ سألتُ الزملاءَ عنهُم فقالُوا لي إنَّ هؤلاءِ لا نعرفِ عنهم شيئاً سوى أنهم متطوعونَ في صفوفِ اللجانِ الشعبيةِ.. قالوا هذهِ الكلماتِ وسطَ حالةٍ من الارتباكِ بدَتْ واضحةً عليهم، لكنَّني كتبْتُ إنذاراً بأسمائِهم يحمِلُ مهلةً لمدةِ أسبوعٍ كي يتواصلوا معَ الثانويةِ لتبريرِ الغيابِ أو سوفَ يتمُّ فَصلُهُم، وعلَّقتُ الإنذارَ في لوحةِ إعلاناتِ الثانويةِ لعلَّ الخبرَ يصلُ إليهم فيستجيبوا ويأتوا إلى الثانوية ..

وما هي إلا بضعةُ أيامٍ حتى دخلَ عليَّ فجأةً شابٌ يافعٌ ذو لحيةٍ طويلةٍ يعرُجُ في قدمِهِ اليمنى ويسيرُ على عُكّازةٍ تساعدُهُ على المشي، فعرّفَ عن نفسِهِ بأسلوبٍ مُتعجرف، لأدركَ أنَّهُ أحدُ الطلبةِ الواردةِ أسماؤهم في الإنذار، وجرى بينَنا الحوارُ التالي:

- وينك يا محمد ليش ما عم بتداوم بالمدرسة.

- أنا متطوع في اللجان الشعبية وحالياً عم نشارك بمعركة الشيخ مسكين وهاي إجري متصاوبة..

- طيب الله يعافيك، بس ودوامك بالثانوية كمان ضروري جداً مشان مستقبلك..

- بس الدفاع عن الوطن أهم من الثانوية والدراسة..

- بتوقع انو الجيش قادر على المواجهة والأمور رح اتكون تمام، لهيك لازم اتداوم يا محمد.

- بصفتك شو عم تمنعني أدافع عن الوطن؟!!

- أنا ما عم أمنعك، أصلاً لا الوطن ولا قائد الوطن بيقبل انك تترك دراستك.. كل واحد إلو دوره يا محمد في بناء هالوطن، الجندي بقاتل وانت بتتعلم وأنا بدرّس والعامل يبني وهيك الوطن بكمّل بعضو البعض ..

وامتد الحوار حوالي خمسة وعشرينَ 25 دقيقةً ليستشيطَ الطالبُ غضباً في نهايةِ المطافِ ويقولُ لي إنه مُصرٌّ على المشاركةِ في القتالِ إلى جانبِ قواتِ النظام، وإنّهُ من واجبي أن أعتبرَهُ من الناجحينَ وأن تصلَ شهادةُ نجاحِهِ إلى البيتِ وإلا فإنَّ الثانويةَ بأكمَلِها سوفُ تدفعُ الثمن، ثم انصرفَ غاضباً..

نظرتُ إلى وجوهِ زملائي الذينَ حضروا الجلسة، فرأيتُها مليئةً بالخوفِ والسخطِ عليَّ لأنني لمْ أستمعْ لنصائِحِهم في البداية، والتي وَجَّهتْ إلى ضرورةِ تجاهلِ هذهِ الأسماءِ لأنَّ ذلكَ يُشكِّلُ خطراً علينا جميعاً، لكنَّني أصدرْتُ القرارَ بضرورةِ أن يُفصَلَ هذا الطالبُ لتطاوُلِهِ على المدرِّسين، ثم اتصلتُ بمعاونِ مديرِ التربيةِ وأخبرْتُهُ بما جرى بيني وبينَ الطالب، وإذْ بهِ يُفاجِئُني بالقول: بلّشنا مشاكل يا أستاذ، ما صرلك أسبوع.... وكأنَّهُ يتبرّأُ منِّي أو يُحمِّلُني المسؤولية، وعندما حاولتُ توضيحَ حجمِ الإهانةِ التي تلقيناهَا من هذا الطالبِ أخبرَنِي أنَّ مثلَ هذا النوعِ من المشاكلِ هو من اختصاصِ المخفرِ وليسَ اختصاصَ مديريةِ التربية، ثم اختصرَ المكالمةَ وأغلقَ سمّاعةَ الهاتف، لأُدركَ كافةَ خيوطِ اللعبةِ التي لا يُمكنُ تلخيصُها سوى بالعنوانِ التالي (دبِّر راسك)..

أقلقَتْني هذهِ القصةُ حقيقةً، وتوجَّهتُ إلى المخفرِ لأعُرِّفَ عن نفسي وأخبرَهُم بما جرى، فقال لي رئيسُ المخفرِ الشابُ إنّهُ ينبغي عليَّ تقديمُ شكوى رسميةٍ ضدَّهُ لدى مكتبِ اللجانِ الشعبيةِ في دمشقَ لمحاسَبَتِهِ على هذا التَّصرُّف، وبالتالي شعرتُ أنَّ المخفرَ هوَ الآخرُ غيرُ مكترثٍ بحمايَتِنَا كمدرّسينَ وعاملينَ في قطاعِ التعليم..

توجَّهتُ إلى المنزل، وأكذبُ لو قُلتُ لَكمْ أنَّني لمْ أَخفْ منْ رَدَّةِ فِعْلِ هذا الطالبِ الذي لا يُشبِهُ الطَّلابَ شكلاً ومضموناً وأخلاقاً..

هل أصبحَ مديرُ الثانويةِ يخشى من طُلَّابِه، ونحنُ الذينَ كُنَّا نُغيّرُ طريقَنَا عندما نرى المديرَ في الشارع؟!!

هل أصبحَ المُدرِّسُ أو المديرُ هوَ الذي يستجدي الحمايةَ بسببِ خلافٍ نشبَ بينَهُ وبينَ أحدِ طلابهِ الُمخالِفِيْن؟!!

كثيرةٌ هيَ الأسئلةُ التي كانتْ تُراوِدُنِي في تلكَ الليلة، ليقطعَ سلسلةَ الأفكارِ هذهِ اتصالٌ على الهاتفِ الأرضيِّ من أحدِ الزُّملاءِ في المدرسةِ الذينَ لديهمْ علاقاتٌ أمنية، ليخبرَني أنَّ شعبةَ الأمنِ القوميِّ في دمشقَ اتصلتْ عليهِ لتسأَلهُ عمَّا جرى وأخذُوا رقمَ هاتفي، ورُبَّما أتلقَّى مِنْهمُ اتصالاً الليلة، لأبيتِ تلكَ الليلةَ في جوارِ الهاتفِ مُرتَجِفَاً أُجهِّزُ ما أُريدُ أن أقولَهُ لَهُم، ولكنَّهم لم يتصلوا، ولم أُخبِرْ أحداً من أفرادِ الأُسرةِ حولَ ما جَرى كيلا أُقلِقَهم، وانتظاراً منِّي كي تتكشَّفَ مُلابساتُ الحادثة ..

اتصلوا في اليومِ التالي على هاتفِ الثانويةِ وتكلَّمُوا معيَ بأسلوبٍ فَوقيٍّ لا يليقُ بي كمدرِّسٍ أو مديرِ ثانوية، ليتطوَّرَ الأمرُ إلى شتائمَ وقدْحٍ واتهامٍ بالخيانةِ للوطن، وتحذيرٍ لي بضرورةِ تفضيلِ مصلحةِ الوطنِ على المصالحِ الضيِّقة، وإنَّهُ كانَ ينبغي عليَّ أن أشكرُ الطالبَ وأحيِّيهِ وأُحيّي حِسَّهُ الوطنيَّ العالي وأكرِّمَهُ أمامَ زملائِهِ والمدرسين، فأنا لمْ أحترمْ إصابَتَهُ ولمْ أُقدِّرْ ما قامَ بهِ دفاعاً عن هذا الوطن، وأَنهى المُتحدِّثُ كلامَهُ بالجملةِ التالية: الطالب ما رح يداوم و هوا ناجح و جلاءتو رح توصل للبيت بالصرماية..

أغلقتُ السماعةَ ليصطَحِبَني أحدُ زملائيَ المقرّبينَ وهوُ بمثابةِ صديق، فقالَ لي على انفراد: نصيحة يا أخي اسحب حالك واهرب من هالبلد لأنو اسمك صار عليه نقطة، و إذا ما بدك تهرب، عالأقل اطلع من مناطق سيطرة النظام و روح عيش بالريف الشرقي عند المعارضة ..

كانَ لهمْ ما أرادوا، فالطالبُ لم يُفصَلْ ولمْ يَحضُر للدوامِ بلْ حضرَ للتشفِّي بنا بعدَ هذا الموقفِ ليدخلَ ويخرجَ إلى الثانويةِ كما يريدُ ومتى يريد .. أدركْتُ وَقتَها أنَّ هذهِ ليستْ ثانويةً بلْ غابة، وهذهِ ليستْ بلداً ذاتَ قانونٍ بل مافياتٌ تحكمُ هذا الشعب، وأدركْتُ أيضاً أنّني وقعتُ ضحيةَ هذهِ المافيات، وبأنّني وأسرتي في خطرٍ محدقٍ إذا ما استمرَّ الحالُ على ما هو عليه ..

تداركْتُ الموقفَ بصعوبةٍ وسطَ حالةٍ كبيرةٍ جداً من الإحراجِ أمامَ الطُّلابِ والزملاء، لأتعرضَ إلى موقفٍ أشدَّ وأصعب، هوَ الذي دفعَني إلى الرحيل، سأُحدِّثُكم عنهُ في الحلقةِ القادمةِ إن شاءَ الله ..

كلَّ الاحترامِ والتقديرِ و نلتقيكم إن شاءَ اللهُ في الأسبوعِ المقبل ..

الوسوم

رابط مختصر : https://actionpal.org.uk/ar/post/17647