map
RSS instagram youtube twitter facebook Google Paly App stores

عدد الضحايا

حتى اليوم

4256

بودكاست قصة من المخيم "المدرّسُ بينَ شرفِ المهنةِ والتحدياتِ الأمنية (2)

تاريخ النشر : 29-08-2022
بودكاست قصة من المخيم "المدرّسُ بينَ شرفِ المهنةِ والتحدياتِ الأمنية (2)

|مجموعة العمل | لندن|

يُتابعُ الأستاذُ أبو ريان حديثَهُ الذي بدأَهُ معَنا الأسبوعَ الفائت، كي يحدّثَنَا عنِ السببِ الآخرِ الذي دفَعهُ إلى الرحيلِ وترْكِ الجملِ بما حمَل، وذلكَ بعدَ الموقفِ المُحرجِ الذي تعرَّضَ لهُ خلالَ اصطدامِهِ معَ الطالبِ المذكور، حيثُ يقولُ أبو ريان: "عندما بدأَ الفصلُ الثاني للسنةِ الدراسيةِ في ذلكَ العام، بدأتِ الأنباءُ تتردّدُ بأنَّ الجيشَ الحرَّ ينوي الهجومَ على مدينةِ درعا بعدَ انتهاءِ الامتحاناتِ الصيفية، وفي ذلكَ الوقتِ كانتْ مراكزُ الامتحاناتِ كلُّها بما فيها التعليمُ الأساسيُّ والثانويُّ والمهنيُّ تتمُّ جميعُها في المدينة، بذريعةِ أنَّ المراكزَ الامتحانيةَ في الأريافِ الخاضعةِ لسيطرةِ المعارضةِ كانت تشهدُ حالةَ فلتانٍ وحالاتِ غشٍّ كثيرةً، وهو أمرٌ مضحكٌ للغاية، ليسَ لأننا نُنكرُ هذا الأمر، فالأمرُ صحيحٌ وهناكَ فوضىً عارمةٌ، بل لأنَّ المراكزَ الامتحانيةَ في مناطقِ سيطرةِ النظامِ كانت على حالةٍ من الفوضى والغشِّ يندى لها الجبين، ولكنِّهُ النظامُ الذي اعتدنا على مزاوَداتِهِ في كافةِ المجالات، وبالتالي أصبحتْ كلُّ المراكزِ الامتحانيةِ تحتَ أنظارِهِ وعلى جميعِ الطلابِ القدومُ إلى المدينةِ لخوضِ هذهِ المغامرة، وكلما اقتربَ موعدُ الامتحاناتِ اشتدتْ معهُ شائعةُ عزمِ الجيشِ الحرِّ الهجومَ على المدينةِ بعدَ الامتحانات، لدرجةِ أنَّ كثيرينَ من عناصرِ الجيشِ والأمنِ كانوا يتلقّونَ رسائلَ تهديدٍ ووعيدٍ على جوّالاتِهم من المعارضة، بأنَّ الهجومَ قادمٌ لا محالة، وأمامَكُم مُتّسعٌ من الوقتِ للانشقاقِ والهروب، ولهذا كانتْ ملامحُ الخوفِ والرُّعبِ واضحةً على العناصرِ الذينَ بدؤوا بالتحصيناتِ وأخْذِ الاحتياطات ..

و كوني مديراً لإحدى الثانوياتِ تمْ تكليفي برئاسةِ أحدَ المراكزِ الامتحانيةِ في مدينةِ "إزرع" على طريقِ دمشق درعا لتبدأَ مرحلةٌ جديدةٌ من مراحلِ المعاناة، بدأتْ بالاجتماعِ الذي عَقدَهُ معنا مديرُ التربيةِ لوضعِ اللمساتِ الأخيرةِ على العمليةِ الامتحانية، وتقديمِ التوجيهاتِ لرؤساءِ المراكز، وهوَ اجتماعٌ روتينيٌّ يُعقَدُ سنوياً قبيلَ العمليةِ الامتحانية، لكنَّ الجديدَ هذهِ المرةَ أنَّ مديرَ التربيةِ أخبرَنا خلالَ الاجتماعِ بعدمِ التهاونِ في المراقبةِ وعدمِ الاستجابةِ لأيِّ ضغوطٍ يمكنُ أن تُمارَسَ علينا من قِبَلِ ضباطِ الجيشِ والشرطة، وبأنَّهُ تلقَّى إيعازاً من قائدِ الشرطةِ في المحافظةِ بضرورةِ ضبطِ الامتحاناتِ والإبلاغِ عن اسمِ أيِّ شخصيةٍ تحاولُ استغلالَ منصبِها للغشِّ في الامتحاناتِ أو تضغطُ على المراقبِ لمساعدةِ بعضِ الطلبةِ في حلِّ الأسئلة، وهذا ما كانَ يحدثُ بشكلٍ سنويٍّ ..

كلامُ مديرِ التربيةِ هذا كان مُطَمْئِنَاً نوعاً ما، رغمَ شكوكِنَا في مصداقيةِ الالتزامِ به، لكنَّنا توكلنَا على اللهِ وذهبنَا إلى أداءَ واجبِنَا، ولمْ يَحُلَّ المساءُ وإذْ بالبابِ يُطرَق، ولمّا فتحتُ البابَ وجدتُ ضابطاً برتبةِ ملازمِ أولَ يمتطي دراجةً ناريةً ويبتسمُ بعدَ أنْ سألني: هون بيت الأستاذ فلان؟؟ قلتُ لهُ: نعم أنا الأستاذ فلان أهلاً وسهلاً بك.. فقال: هل يمكنُ استضافتي دقيقتين؟؟ فقلتُ له: على الرحبِ والسعة، تفضّلْ سيادةَ الملازم.

دخلَ وفي يدِهِ كيسٌ وضعَهُ عندَ بابِ غرفةِ الضيوفِ وقالَ هذهِ علبةُ حلوياتٍ هديةَ التعارف، وعرّفَ عن نفسِهِ بأنَّهَ من طرفِ الضابطِ المسؤولِ عن حاجزِ المنطقةِ وكانَ لطيفاً إلى أبعدِ الحدود، ثم قال لي: بسلِّمْ عليك الضابط، وبقلك في عندك بالمركز الطالب الفلاني وبدنا مساعدتك، وهالطالب أبوه استشهد بالحرب وبدنا انساعدو شوي بلكي ينجح ويكمل دراسة..

حاولتُ التبريرَ لكنَّ الإرباكَ كانَ واضحاً عليَّ لأنَّها المرةُ الأولى التي أتعرَّضُ فيها لمثلِ هذهِ المواقف، وانتهتْ الجلسةُ التي لم تستمرَّ أكثرَ من عشرِ دقائقَ بقولِه: بدنا نسمعْ أخبار طيبة عن هالطالب بالامتحانات يا أستاذ، ثم انصرفَ دونَ أن يقبلَ البقاءَ لشربِ كوبٍ من الشاي أو أيِّ ضيافة، ليخرجَ أمامَ مرأى الجيرانِ الذينَ رابَهم خروجِ هذا الضابطِ من عندي وليسَ من عادَتِي أن أستقبلَ ضيوفاً من هذا الطراز، لكنَّني وعلى الفورِ وضّحتُ لهمْ سببَ الزيارةِ كي لا نقعَ في سينٍ وجيم.

استشرْتُ زوجتي فيمَا أفعلُهُ معَ الطالبِ الذي أوصى بهِ الضابط، فأشارتْ عليَّ بتوصيةِ المراقبِ عليهِ والاكتفاءِ بذلك، وبالفعلِ عندَما جاءَ موعدُ امتحانِ اللغةِ الإنكليزية، اخترتُ مراقباً يحملُ شهادةَ الإجازةِ في اللغةِ الإنكليزيةِ لأكلَّفَهُ بالمراقبةِ في القاعةِ التي يوجَدُ فيها هذا الطالب، وقمتُ بتوصيةِ المراقبِ عليهِ بعدَ أن وضَّحتُ لهُ وضْعَ الطالبِ كما شرَحَهُ الضابط، وبالفعلِ قامَ هذا المدرِّسُ بمساعدةِ الطالبِ بعضَ الشيءِ رغمَ أنَّ ضميري كمدرّسٍ لم يكنْ مرتاحاً لهذهِ التوصيةِ لأنني لم أعتدْ إلّا أن أكونَ أميناً مُخلصاً في مهنتي، لكنَّني مضطرٌّ وربما يكونُ هذا ليسَ سبباً مقنعاً كي أخوضَ عمليةَ الغُشِّ هذه، حتى إنّ المراقبَ لم يُعْجبْهُ قولي ولكنَّهُ مضطرُّ هو الآخر ..

مرَّت ثلاثةُ امتحاناتٍ على هذا المنوال، لأتفاجَأَ بعودةِ الضابطِ إلى المنزلِ بلا حَمدٍ ولا شكر، بل بغضبٍ واستياءٍ لأنني لم أساعدِ الطالبَ سوى بالقليلِ القليلِ وهذا ليسَ كافياً، بلْ عليَّ التعاونُ أكثر، فقاطعْتُهُ قائلاً : يا سيادةَ الملازمِ أنتَ تعرفُ أننا إذا ساعدْنَا هذا الطالبَ أكثرَ فإنَّ بقيةَ الطلابِ سوفَ تلاحظُ وتحتجُّ وربما ينكشفُ أمرُنا، وهذا ليسَ من مصلحَتِكَ ومصلحَتِنَا، لذلكَ أنا أرى أنّ المساعدةَ التي أقدِّمُها لهُ كافية، فأنا أفرزُ لهُ مراقباً مختصاً في كلِّ مادةٍ يساعدُهُ سراً قدرَ الإمكان، فقالَ لي هذا ليسَ كافياً، وعندما سألْتُهُ ماذا تقترح؟؟ فاجَأَني بطرْحٍ وقحٍ عندَما طلبَ منِّي تسريبَ الأسئلةِ للطالبِ قبلَ موعدِ الامتحانِ بساعةٍ أو نصفِ ساعةٍ حينما أستلِمُها من المديرية..

لاحظَ الضابطُ استغرابي لهذا الطرح، فقلتُ لهُ: يا سيادةَ الملازمِ هذا أمرٌ صعبٌ جداً عليَّ وفوقَ طاقتي، وهذهِ هي المرةُ الأولى التي أتولَّى فيها رئاسةَ مركزٍ امتحاني، وليسَ لديَّ خبرةٌ في عملياتِ الغش، فأرجوكَ ثمَّ أرجوكَ أن تُعفِيَنِي من هذهِ المهمةِ وأكونَ لكَ من الشاكرين، لكنَّهُ لم يستجبْ واستمرَّ في إلحاحِهِ الحادِّ حتّى احتدمَ الموقفُ في منزلي، وقلتُ له: لن أفتحَ مصنَّفَ الأسئلةِ قبلَ الموعدِ المحدَّدِ على مسؤوليتي، وإذا كُنتَ قادراً على حمايتي فأتوقعُ أنّكَ ستكونَ قادراً أيضاً على جلْبِ ورقةِ الأسئلةِ من مديريةِ التربيةِ قبلَ الامتحانِ بساعتين، فمنْ يستطيعُ أن يفعلَ الأمرَ الأوَّل، يستطيعُ دونَ أدنى شكٍّ أن يفعلَ الأمرَ الثاني ... لم يعجبْهُ الحديثُ بالمطلق، ولذلكَ اقترحَ عليَّ أمراً آخرَ وهوَ إخراجُ ورقةِ الأسئلةِ خارجَ المركزِ معَ بدايةِ الامتحانِ وإعطائِهَا لشخصٍ من طرَفِه، على أن يعودَ هذا الشخصُ بعدَ ساعةٍ بالإجاباتِ ويعطيني إياها، وبدوري أُعطيها للطالبِ داخلَ القاعةِ الذي سينقُلُهَا إلى ورقةِ الإجابة، لكنني رفضتُ هذا المقترحَ أيضاً وبقيتُ مصرّاً على المساعدةِ التي أُقدِّمُهَا لهذا الطالب ..

لملمَ الضابطُ أغراضَهُ على الفورِ بعدَ أن سمعَ هذا الكلامَ وخرجَ من الغرفةِ دونَ أن يطلبَ منّي أن أفتحَ لهُ الطريقَ للخروجِ، وأغلقَ البابَ بشكلٍ عنيفٍ خلفَهُ، رغمَ كلِّ محاولاتِي لتهدِئَتِهِ واستمرارِ الجلسة، وهنا عادَ الخوفُ مجدداً إليّ وبأضعافٍ مضاعفةٍ عمَّا كانَ عليهِ الحالُ إبّانَ مشكلتي معَ ذلكَ الطالب، فالخصمُ هذهِ المرةَ ملازمٌ أولُ وليسَ طالباً، وقد زادَ الطين بِلّةً حالةُ القلقِ التي سيطرتْ أيضاً على زوجتي وأمي اللّتينِ بدأَتَا تُلقيانِ اللومَ عليَّ لأنني لمْ أستجبْ لمطلَبِه، فلتذهبْ الامتحاناتُ إلى الجحيمِ على حَدّ زعمِهنّ، ولتنتشرِ الفوضى وليحصلْ ما يحصل، ولا تَدخُلْ إلى السجنِ دقيقةً واحدة، فالمحافظةُ تغلي على أنباءِ المعاركِ المقبلة، والتهمُ لدى قواتِ الأمنِ السوريِّ جاهزةٌ للمواطنين، وأقلُّها هي أنّكَ تُعطي إحداثياتِ وأماكنَ تمركُّزِ القواتِ الأمنيةِ إلى الجيشِ الحر، كما أنّكَ تُعمِّمُ أرقامَ هواتفِ العساكرِ على الجيشِ الحرِّ لتهديدِهِم عبرَ الاتصالِ ورسائلِ الواتس أب، كلُّ هذا الكلامِ بدأتْ تَرشُّهُ زوجتي عليَّ رشّاً كالرصاص، تُسانِدُهَا أمي في هذهِ المهمةِ لأستشيطَ عليهنَّ غضباً وأخرجَ من المنزلِ إلى أحدِ أصدقائي الذي قَصصتُ عليهِ هوَ الآخرُ ما جرى، ليتبّعَ نفسَ أسلوبِ أمي وزوجتي في تخويفي وإلقاءِ اللومِ عليّ ..

تابعتُ العمليةَ الامتحانيةَ لأتلقّى اتصالاً من ابن عمّي في نهايةِ الامتحاناتِ وفيهِ استدعاني إلى منزلِهِ لأمرٍ طارئ، وابنُ عمي هذا هوَ أحدُ كوادرِ القيادةِ العامةِ التابعةِ لأحمد جبريل، والتي تقاتِلُ إلى جانبِ النظامِ السوري، وبالفعلِ ذهبتُ إليهِ ليخبرَنِي أنَّ هناكَ بلاغاً ضدِّي في فرعِ الأمنِ العسكريِّ أنني أنقلُ أخباراً للجيشِ الحرِّ تفيدُ بأنَّ عناصرَ النظامِ يعتريهمُ الخوفُ بسببِ نيّةِ المعارضةِ الهجومَ على مدينةِ درعا، وبأنَّ مساعداً في الأمنِ العسكريِّ صديقاً لهُ أخبرَهُ بذلكَ سراً كي أغيبَ عن الأنظارِ فوراً لأنَّ أمرَ المداهمةِ سيصدرُ قريباً ..

صدقني يا أخي الكريمَ أنني بعدَ أن تلقيتُ النبأَ لم أذهبْ إلى البيتِ ولم أرَ منزلي منذْ ذلكَ الحين، لأنني طلبتُ من ابنِ عمّي أنْ يُنقذَني ويساعدَنِي في الخروجِ نحوَ ريفِ درعا الشرقيِّ من خلالِ المرورِ على حاجزٍ كانَ يُسمَّى حاجزَ الشرع، وبالفعلِ تواصلَ ابنُ عمي معَ أصدقائِهِ على ذلكَ الحاجزِ ووافقُوا على مروري مقابلَ خمسينَ ألفَ ليرة، استقرضْتُهم من ابنِ عمّي وخرجتُ على الفورِ وطلبتُ من زوجتي اللحاقَ بي على الفور..

غادرتْ زوجتي إلى الريفِ الغربيِّ وغادرتُ أنا إلى الريفِ الشرقي، وما بينَ الشرقِ والغربِ التقينَا بعيداً عن قواتِ النظامِ قاصدينَ بابَ الهجرةِ الذي فَتحَ مصراعيهِ أمامَنَا..

لم نكنْ مدرّسينَ من ناحيةِ الكرامة، ولمْ نُعامَلْ على أنّنا بناةٌ الأجيالِ بقدْرِ ما عُوملْنَا على أننا خَدمٌ بلا كرامة..

أشكرُكُم على اهتمامِكُم بمعانَاتِنَا بعدَ أنْ تخلّى عنّا الجميعُ، والشكرُ كلُّ الشكرِ لفريقِكُمُ العاملِ ولهذهِ اللفتةِ الكريمةِ..

الوسوم

رابط مختصر : https://actionpal.org.uk/ar/post/17715

|مجموعة العمل | لندن|

يُتابعُ الأستاذُ أبو ريان حديثَهُ الذي بدأَهُ معَنا الأسبوعَ الفائت، كي يحدّثَنَا عنِ السببِ الآخرِ الذي دفَعهُ إلى الرحيلِ وترْكِ الجملِ بما حمَل، وذلكَ بعدَ الموقفِ المُحرجِ الذي تعرَّضَ لهُ خلالَ اصطدامِهِ معَ الطالبِ المذكور، حيثُ يقولُ أبو ريان: "عندما بدأَ الفصلُ الثاني للسنةِ الدراسيةِ في ذلكَ العام، بدأتِ الأنباءُ تتردّدُ بأنَّ الجيشَ الحرَّ ينوي الهجومَ على مدينةِ درعا بعدَ انتهاءِ الامتحاناتِ الصيفية، وفي ذلكَ الوقتِ كانتْ مراكزُ الامتحاناتِ كلُّها بما فيها التعليمُ الأساسيُّ والثانويُّ والمهنيُّ تتمُّ جميعُها في المدينة، بذريعةِ أنَّ المراكزَ الامتحانيةَ في الأريافِ الخاضعةِ لسيطرةِ المعارضةِ كانت تشهدُ حالةَ فلتانٍ وحالاتِ غشٍّ كثيرةً، وهو أمرٌ مضحكٌ للغاية، ليسَ لأننا نُنكرُ هذا الأمر، فالأمرُ صحيحٌ وهناكَ فوضىً عارمةٌ، بل لأنَّ المراكزَ الامتحانيةَ في مناطقِ سيطرةِ النظامِ كانت على حالةٍ من الفوضى والغشِّ يندى لها الجبين، ولكنِّهُ النظامُ الذي اعتدنا على مزاوَداتِهِ في كافةِ المجالات، وبالتالي أصبحتْ كلُّ المراكزِ الامتحانيةِ تحتَ أنظارِهِ وعلى جميعِ الطلابِ القدومُ إلى المدينةِ لخوضِ هذهِ المغامرة، وكلما اقتربَ موعدُ الامتحاناتِ اشتدتْ معهُ شائعةُ عزمِ الجيشِ الحرِّ الهجومَ على المدينةِ بعدَ الامتحانات، لدرجةِ أنَّ كثيرينَ من عناصرِ الجيشِ والأمنِ كانوا يتلقّونَ رسائلَ تهديدٍ ووعيدٍ على جوّالاتِهم من المعارضة، بأنَّ الهجومَ قادمٌ لا محالة، وأمامَكُم مُتّسعٌ من الوقتِ للانشقاقِ والهروب، ولهذا كانتْ ملامحُ الخوفِ والرُّعبِ واضحةً على العناصرِ الذينَ بدؤوا بالتحصيناتِ وأخْذِ الاحتياطات ..

و كوني مديراً لإحدى الثانوياتِ تمْ تكليفي برئاسةِ أحدَ المراكزِ الامتحانيةِ في مدينةِ "إزرع" على طريقِ دمشق درعا لتبدأَ مرحلةٌ جديدةٌ من مراحلِ المعاناة، بدأتْ بالاجتماعِ الذي عَقدَهُ معنا مديرُ التربيةِ لوضعِ اللمساتِ الأخيرةِ على العمليةِ الامتحانية، وتقديمِ التوجيهاتِ لرؤساءِ المراكز، وهوَ اجتماعٌ روتينيٌّ يُعقَدُ سنوياً قبيلَ العمليةِ الامتحانية، لكنَّ الجديدَ هذهِ المرةَ أنَّ مديرَ التربيةِ أخبرَنا خلالَ الاجتماعِ بعدمِ التهاونِ في المراقبةِ وعدمِ الاستجابةِ لأيِّ ضغوطٍ يمكنُ أن تُمارَسَ علينا من قِبَلِ ضباطِ الجيشِ والشرطة، وبأنَّهُ تلقَّى إيعازاً من قائدِ الشرطةِ في المحافظةِ بضرورةِ ضبطِ الامتحاناتِ والإبلاغِ عن اسمِ أيِّ شخصيةٍ تحاولُ استغلالَ منصبِها للغشِّ في الامتحاناتِ أو تضغطُ على المراقبِ لمساعدةِ بعضِ الطلبةِ في حلِّ الأسئلة، وهذا ما كانَ يحدثُ بشكلٍ سنويٍّ ..

كلامُ مديرِ التربيةِ هذا كان مُطَمْئِنَاً نوعاً ما، رغمَ شكوكِنَا في مصداقيةِ الالتزامِ به، لكنَّنا توكلنَا على اللهِ وذهبنَا إلى أداءَ واجبِنَا، ولمْ يَحُلَّ المساءُ وإذْ بالبابِ يُطرَق، ولمّا فتحتُ البابَ وجدتُ ضابطاً برتبةِ ملازمِ أولَ يمتطي دراجةً ناريةً ويبتسمُ بعدَ أنْ سألني: هون بيت الأستاذ فلان؟؟ قلتُ لهُ: نعم أنا الأستاذ فلان أهلاً وسهلاً بك.. فقال: هل يمكنُ استضافتي دقيقتين؟؟ فقلتُ له: على الرحبِ والسعة، تفضّلْ سيادةَ الملازم.

دخلَ وفي يدِهِ كيسٌ وضعَهُ عندَ بابِ غرفةِ الضيوفِ وقالَ هذهِ علبةُ حلوياتٍ هديةَ التعارف، وعرّفَ عن نفسِهِ بأنَّهَ من طرفِ الضابطِ المسؤولِ عن حاجزِ المنطقةِ وكانَ لطيفاً إلى أبعدِ الحدود، ثم قال لي: بسلِّمْ عليك الضابط، وبقلك في عندك بالمركز الطالب الفلاني وبدنا مساعدتك، وهالطالب أبوه استشهد بالحرب وبدنا انساعدو شوي بلكي ينجح ويكمل دراسة..

حاولتُ التبريرَ لكنَّ الإرباكَ كانَ واضحاً عليَّ لأنَّها المرةُ الأولى التي أتعرَّضُ فيها لمثلِ هذهِ المواقف، وانتهتْ الجلسةُ التي لم تستمرَّ أكثرَ من عشرِ دقائقَ بقولِه: بدنا نسمعْ أخبار طيبة عن هالطالب بالامتحانات يا أستاذ، ثم انصرفَ دونَ أن يقبلَ البقاءَ لشربِ كوبٍ من الشاي أو أيِّ ضيافة، ليخرجَ أمامَ مرأى الجيرانِ الذينَ رابَهم خروجِ هذا الضابطِ من عندي وليسَ من عادَتِي أن أستقبلَ ضيوفاً من هذا الطراز، لكنَّني وعلى الفورِ وضّحتُ لهمْ سببَ الزيارةِ كي لا نقعَ في سينٍ وجيم.

استشرْتُ زوجتي فيمَا أفعلُهُ معَ الطالبِ الذي أوصى بهِ الضابط، فأشارتْ عليَّ بتوصيةِ المراقبِ عليهِ والاكتفاءِ بذلك، وبالفعلِ عندَما جاءَ موعدُ امتحانِ اللغةِ الإنكليزية، اخترتُ مراقباً يحملُ شهادةَ الإجازةِ في اللغةِ الإنكليزيةِ لأكلَّفَهُ بالمراقبةِ في القاعةِ التي يوجَدُ فيها هذا الطالب، وقمتُ بتوصيةِ المراقبِ عليهِ بعدَ أن وضَّحتُ لهُ وضْعَ الطالبِ كما شرَحَهُ الضابط، وبالفعلِ قامَ هذا المدرِّسُ بمساعدةِ الطالبِ بعضَ الشيءِ رغمَ أنَّ ضميري كمدرّسٍ لم يكنْ مرتاحاً لهذهِ التوصيةِ لأنني لم أعتدْ إلّا أن أكونَ أميناً مُخلصاً في مهنتي، لكنَّني مضطرٌّ وربما يكونُ هذا ليسَ سبباً مقنعاً كي أخوضَ عمليةَ الغُشِّ هذه، حتى إنّ المراقبَ لم يُعْجبْهُ قولي ولكنَّهُ مضطرُّ هو الآخر ..

مرَّت ثلاثةُ امتحاناتٍ على هذا المنوال، لأتفاجَأَ بعودةِ الضابطِ إلى المنزلِ بلا حَمدٍ ولا شكر، بل بغضبٍ واستياءٍ لأنني لم أساعدِ الطالبَ سوى بالقليلِ القليلِ وهذا ليسَ كافياً، بلْ عليَّ التعاونُ أكثر، فقاطعْتُهُ قائلاً : يا سيادةَ الملازمِ أنتَ تعرفُ أننا إذا ساعدْنَا هذا الطالبَ أكثرَ فإنَّ بقيةَ الطلابِ سوفَ تلاحظُ وتحتجُّ وربما ينكشفُ أمرُنا، وهذا ليسَ من مصلحَتِكَ ومصلحَتِنَا، لذلكَ أنا أرى أنّ المساعدةَ التي أقدِّمُها لهُ كافية، فأنا أفرزُ لهُ مراقباً مختصاً في كلِّ مادةٍ يساعدُهُ سراً قدرَ الإمكان، فقالَ لي هذا ليسَ كافياً، وعندما سألْتُهُ ماذا تقترح؟؟ فاجَأَني بطرْحٍ وقحٍ عندَما طلبَ منِّي تسريبَ الأسئلةِ للطالبِ قبلَ موعدِ الامتحانِ بساعةٍ أو نصفِ ساعةٍ حينما أستلِمُها من المديرية..

لاحظَ الضابطُ استغرابي لهذا الطرح، فقلتُ لهُ: يا سيادةَ الملازمِ هذا أمرٌ صعبٌ جداً عليَّ وفوقَ طاقتي، وهذهِ هي المرةُ الأولى التي أتولَّى فيها رئاسةَ مركزٍ امتحاني، وليسَ لديَّ خبرةٌ في عملياتِ الغش، فأرجوكَ ثمَّ أرجوكَ أن تُعفِيَنِي من هذهِ المهمةِ وأكونَ لكَ من الشاكرين، لكنَّهُ لم يستجبْ واستمرَّ في إلحاحِهِ الحادِّ حتّى احتدمَ الموقفُ في منزلي، وقلتُ له: لن أفتحَ مصنَّفَ الأسئلةِ قبلَ الموعدِ المحدَّدِ على مسؤوليتي، وإذا كُنتَ قادراً على حمايتي فأتوقعُ أنّكَ ستكونَ قادراً أيضاً على جلْبِ ورقةِ الأسئلةِ من مديريةِ التربيةِ قبلَ الامتحانِ بساعتين، فمنْ يستطيعُ أن يفعلَ الأمرَ الأوَّل، يستطيعُ دونَ أدنى شكٍّ أن يفعلَ الأمرَ الثاني ... لم يعجبْهُ الحديثُ بالمطلق، ولذلكَ اقترحَ عليَّ أمراً آخرَ وهوَ إخراجُ ورقةِ الأسئلةِ خارجَ المركزِ معَ بدايةِ الامتحانِ وإعطائِهَا لشخصٍ من طرَفِه، على أن يعودَ هذا الشخصُ بعدَ ساعةٍ بالإجاباتِ ويعطيني إياها، وبدوري أُعطيها للطالبِ داخلَ القاعةِ الذي سينقُلُهَا إلى ورقةِ الإجابة، لكنني رفضتُ هذا المقترحَ أيضاً وبقيتُ مصرّاً على المساعدةِ التي أُقدِّمُهَا لهذا الطالب ..

لملمَ الضابطُ أغراضَهُ على الفورِ بعدَ أن سمعَ هذا الكلامَ وخرجَ من الغرفةِ دونَ أن يطلبَ منّي أن أفتحَ لهُ الطريقَ للخروجِ، وأغلقَ البابَ بشكلٍ عنيفٍ خلفَهُ، رغمَ كلِّ محاولاتِي لتهدِئَتِهِ واستمرارِ الجلسة، وهنا عادَ الخوفُ مجدداً إليّ وبأضعافٍ مضاعفةٍ عمَّا كانَ عليهِ الحالُ إبّانَ مشكلتي معَ ذلكَ الطالب، فالخصمُ هذهِ المرةَ ملازمٌ أولُ وليسَ طالباً، وقد زادَ الطين بِلّةً حالةُ القلقِ التي سيطرتْ أيضاً على زوجتي وأمي اللّتينِ بدأَتَا تُلقيانِ اللومَ عليَّ لأنني لمْ أستجبْ لمطلَبِه، فلتذهبْ الامتحاناتُ إلى الجحيمِ على حَدّ زعمِهنّ، ولتنتشرِ الفوضى وليحصلْ ما يحصل، ولا تَدخُلْ إلى السجنِ دقيقةً واحدة، فالمحافظةُ تغلي على أنباءِ المعاركِ المقبلة، والتهمُ لدى قواتِ الأمنِ السوريِّ جاهزةٌ للمواطنين، وأقلُّها هي أنّكَ تُعطي إحداثياتِ وأماكنَ تمركُّزِ القواتِ الأمنيةِ إلى الجيشِ الحر، كما أنّكَ تُعمِّمُ أرقامَ هواتفِ العساكرِ على الجيشِ الحرِّ لتهديدِهِم عبرَ الاتصالِ ورسائلِ الواتس أب، كلُّ هذا الكلامِ بدأتْ تَرشُّهُ زوجتي عليَّ رشّاً كالرصاص، تُسانِدُهَا أمي في هذهِ المهمةِ لأستشيطَ عليهنَّ غضباً وأخرجَ من المنزلِ إلى أحدِ أصدقائي الذي قَصصتُ عليهِ هوَ الآخرُ ما جرى، ليتبّعَ نفسَ أسلوبِ أمي وزوجتي في تخويفي وإلقاءِ اللومِ عليّ ..

تابعتُ العمليةَ الامتحانيةَ لأتلقّى اتصالاً من ابن عمّي في نهايةِ الامتحاناتِ وفيهِ استدعاني إلى منزلِهِ لأمرٍ طارئ، وابنُ عمي هذا هوَ أحدُ كوادرِ القيادةِ العامةِ التابعةِ لأحمد جبريل، والتي تقاتِلُ إلى جانبِ النظامِ السوري، وبالفعلِ ذهبتُ إليهِ ليخبرَنِي أنَّ هناكَ بلاغاً ضدِّي في فرعِ الأمنِ العسكريِّ أنني أنقلُ أخباراً للجيشِ الحرِّ تفيدُ بأنَّ عناصرَ النظامِ يعتريهمُ الخوفُ بسببِ نيّةِ المعارضةِ الهجومَ على مدينةِ درعا، وبأنَّ مساعداً في الأمنِ العسكريِّ صديقاً لهُ أخبرَهُ بذلكَ سراً كي أغيبَ عن الأنظارِ فوراً لأنَّ أمرَ المداهمةِ سيصدرُ قريباً ..

صدقني يا أخي الكريمَ أنني بعدَ أن تلقيتُ النبأَ لم أذهبْ إلى البيتِ ولم أرَ منزلي منذْ ذلكَ الحين، لأنني طلبتُ من ابنِ عمّي أنْ يُنقذَني ويساعدَنِي في الخروجِ نحوَ ريفِ درعا الشرقيِّ من خلالِ المرورِ على حاجزٍ كانَ يُسمَّى حاجزَ الشرع، وبالفعلِ تواصلَ ابنُ عمي معَ أصدقائِهِ على ذلكَ الحاجزِ ووافقُوا على مروري مقابلَ خمسينَ ألفَ ليرة، استقرضْتُهم من ابنِ عمّي وخرجتُ على الفورِ وطلبتُ من زوجتي اللحاقَ بي على الفور..

غادرتْ زوجتي إلى الريفِ الغربيِّ وغادرتُ أنا إلى الريفِ الشرقي، وما بينَ الشرقِ والغربِ التقينَا بعيداً عن قواتِ النظامِ قاصدينَ بابَ الهجرةِ الذي فَتحَ مصراعيهِ أمامَنَا..

لم نكنْ مدرّسينَ من ناحيةِ الكرامة، ولمْ نُعامَلْ على أنّنا بناةٌ الأجيالِ بقدْرِ ما عُوملْنَا على أننا خَدمٌ بلا كرامة..

أشكرُكُم على اهتمامِكُم بمعانَاتِنَا بعدَ أنْ تخلّى عنّا الجميعُ، والشكرُ كلُّ الشكرِ لفريقِكُمُ العاملِ ولهذهِ اللفتةِ الكريمةِ..

الوسوم

رابط مختصر : https://actionpal.org.uk/ar/post/17715