map
RSS instagram youtube twitter facebook Google Paly App stores

عدد الضحايا

حتى اليوم

4256

الطبيب الإنسان.. أحمد أبو زرد

تاريخ النشر : 31-12-2023
الطبيب الإنسان.. أحمد أبو زرد

عبد السلام فايز

لم أكن أعلم أن تلك المكالمة الهاتفية بيننا ستكون الأخيرة، ولو ملكتُ الغيبَ لأمسكتُ بالمكالمة حتى هذه اللحظة، ولكنّ الحديث تركّزَ آنذاك عن أهوال الحرب في غزة، دون أن ندري أن أحدَنا سُيُرثَى قريباً..

فَإِثْرَ نزيف دماغيّ مفاجئ، يرحل الطبيبُ الإنسان، والصديق العزيز أحمد يوسف أبو زرد، ابن مخيم درعا، تاركاً خلفه كمّاً هائلاً من الأخلاق الفاضلة التي يشهد بها كل من يعرفه، وصدمةً كبرى لدى أبناء مُخيّمِنا جميعا في كافةِ أماكن شتاتهم، الذين نعوا أحمد وكأنه فقيد المخيم بأكمله.

أحمد، ابنُ مُخيمنا وابن الفقر المُدقع، والطفولة القاسية والأزقّة الضيقة، والمعاناة الفلسطينية في مخيمات الشتات، حيث شَقّ طريقه رغماً عن الظروف، ليصبح واحداً من الأطباء المهرة في مشفى ميونخ بألمانيا، ولكنّ القدر يشاء أن يأخذه مبكراً رغم أنه لم يكمل الأربعين من عمره..

لم أُفجَع بهِ كصديقٍ أبداً، بل كأخٍ وأكثر، لأنه وإخوته جزءٌ لا يتجزأ من طفولتي، فلا يمكن لي أن أستذكر أيّ شيء من الطفولة على الإطلاق، إلّا ويكون أحمد وإخوته محمد ومحمود حاضرين في المشهد، بعد أن عشنا أيام الصبا والشباب في زقاقٍ واحد ومعاناة مُماثلة، ولذلك يمكن القول إن أحمد لم يصبح طبيباً من فراغ، بل هي رحلة طويلة وشاقة تخلّلها الفقرُ والإصرار والعناد..

أبوهُ هو الشاعر يوسف أبو زرد الذي ربّى أولاده العشرة بعرق الجبين، وجعلَ منهم شباباً أشدّاء من خيرةِ شبابِنا، ولم يُقْعِدُهُ ضعفُ بصرِهِ عن ذلك، بل غلبَ الحياةَ أحياناً، وغلبَتْهُ أحياناً أخرى، فكان ذلك الصراعُ صراعاً على الوجود، وصراعاً على لقمةِ العيش، وصراعاً على البقاء، بين طرفَين غير مُتكافِئَين، هما الحياة من طرف، وأبو أحمد من طرف آخر..

كان أحمد وهو البكر بين الذكور، يدرسُ في المطبخ بسبب قلة الحيلة، وعلى سطح المنزل أحياناً أخرى، ومع ذلك كان الأول على صفّه، والتحق بثانوية المتفوقين بدرعا بعد حصوله على أعلى الدرجات، ثم حصل على القبول في فرع الطب البشري في جامعة دمشق، فرأى فيه والدُه ثمرةَ تعبه خلال العقود السابقة، ومصدرَ فخرٍ واعتزاز له ولعائلته وأبناء مخيمه..

وصل أحمد إلى ألمانيا بعد رحلة مريرة جداً بين بلدان اللهِ الواسعة، ولم يكن يعلم أنه على موعدٍ مع الموت المحتوم، تلك النهاية التي سنؤولُ إليها جميعُنا، ولكنّ المأساة تكمن في أن وفاته كانت قبل يومين فقط من ولادة طفلتِه البكر إلى هذه الحياة، لتأتي هذه الرضيعة إلى الدنيا في الوقت الذي يكون فيه والدُها في ثلّاجة الموتى..

كَم كان ينتظرُ قدومُها، وكم هيّأَ لها كل مقوّمات السعادة، وكم عدّ الأيام والأسابيع وهو يترقّب فجر الولادة!! ولكنّها مشيئةُ الله أنْ يرحلَ قبل مجيئها بساعات، حيث سمّوها آية كما اختار لها أبوها..

 آيةٌ مماذا يا تُرى؟ آيةٌ من المأساة أم آيةٌ من الجمال؟!!

آيةٌ من الصدمة أمْ آيةٌ من الحزن؟ وكيف سيكون عيد ميلاد آية في قادم السنوات؟ وكيف سوف تقفُ آية في ذكرى ميلادِها يا تُرى؟!

لسانُ حالها يقول هذه الأبيات الشعرية:

قُم يا أبي أَوَلَمْ تسمعْ.. أنا آية ْ

مالي سوى قُبلاتٍ منكَ مِنْ غايةْ

ألمْ تَعُدَّ شهورَ الحَمْلِ مُنتظرا

وتَعزفِ العودَ والكِيْتارَ والنّايَا

حلمتُ فيكَ بأني صرتُ يافعةً

تقولُ: (اعملي لي فطورَ الصبحِ و الشّايَا )

لكنْ رحلتَ ولم تصبر لِفرحَتِنا

نَمْ واطمئنّ سأحمي بعدك الراية

الوسوم

رابط مختصر : https://actionpal.org.uk/ar/post/19885

عبد السلام فايز

لم أكن أعلم أن تلك المكالمة الهاتفية بيننا ستكون الأخيرة، ولو ملكتُ الغيبَ لأمسكتُ بالمكالمة حتى هذه اللحظة، ولكنّ الحديث تركّزَ آنذاك عن أهوال الحرب في غزة، دون أن ندري أن أحدَنا سُيُرثَى قريباً..

فَإِثْرَ نزيف دماغيّ مفاجئ، يرحل الطبيبُ الإنسان، والصديق العزيز أحمد يوسف أبو زرد، ابن مخيم درعا، تاركاً خلفه كمّاً هائلاً من الأخلاق الفاضلة التي يشهد بها كل من يعرفه، وصدمةً كبرى لدى أبناء مُخيّمِنا جميعا في كافةِ أماكن شتاتهم، الذين نعوا أحمد وكأنه فقيد المخيم بأكمله.

أحمد، ابنُ مُخيمنا وابن الفقر المُدقع، والطفولة القاسية والأزقّة الضيقة، والمعاناة الفلسطينية في مخيمات الشتات، حيث شَقّ طريقه رغماً عن الظروف، ليصبح واحداً من الأطباء المهرة في مشفى ميونخ بألمانيا، ولكنّ القدر يشاء أن يأخذه مبكراً رغم أنه لم يكمل الأربعين من عمره..

لم أُفجَع بهِ كصديقٍ أبداً، بل كأخٍ وأكثر، لأنه وإخوته جزءٌ لا يتجزأ من طفولتي، فلا يمكن لي أن أستذكر أيّ شيء من الطفولة على الإطلاق، إلّا ويكون أحمد وإخوته محمد ومحمود حاضرين في المشهد، بعد أن عشنا أيام الصبا والشباب في زقاقٍ واحد ومعاناة مُماثلة، ولذلك يمكن القول إن أحمد لم يصبح طبيباً من فراغ، بل هي رحلة طويلة وشاقة تخلّلها الفقرُ والإصرار والعناد..

أبوهُ هو الشاعر يوسف أبو زرد الذي ربّى أولاده العشرة بعرق الجبين، وجعلَ منهم شباباً أشدّاء من خيرةِ شبابِنا، ولم يُقْعِدُهُ ضعفُ بصرِهِ عن ذلك، بل غلبَ الحياةَ أحياناً، وغلبَتْهُ أحياناً أخرى، فكان ذلك الصراعُ صراعاً على الوجود، وصراعاً على لقمةِ العيش، وصراعاً على البقاء، بين طرفَين غير مُتكافِئَين، هما الحياة من طرف، وأبو أحمد من طرف آخر..

كان أحمد وهو البكر بين الذكور، يدرسُ في المطبخ بسبب قلة الحيلة، وعلى سطح المنزل أحياناً أخرى، ومع ذلك كان الأول على صفّه، والتحق بثانوية المتفوقين بدرعا بعد حصوله على أعلى الدرجات، ثم حصل على القبول في فرع الطب البشري في جامعة دمشق، فرأى فيه والدُه ثمرةَ تعبه خلال العقود السابقة، ومصدرَ فخرٍ واعتزاز له ولعائلته وأبناء مخيمه..

وصل أحمد إلى ألمانيا بعد رحلة مريرة جداً بين بلدان اللهِ الواسعة، ولم يكن يعلم أنه على موعدٍ مع الموت المحتوم، تلك النهاية التي سنؤولُ إليها جميعُنا، ولكنّ المأساة تكمن في أن وفاته كانت قبل يومين فقط من ولادة طفلتِه البكر إلى هذه الحياة، لتأتي هذه الرضيعة إلى الدنيا في الوقت الذي يكون فيه والدُها في ثلّاجة الموتى..

كَم كان ينتظرُ قدومُها، وكم هيّأَ لها كل مقوّمات السعادة، وكم عدّ الأيام والأسابيع وهو يترقّب فجر الولادة!! ولكنّها مشيئةُ الله أنْ يرحلَ قبل مجيئها بساعات، حيث سمّوها آية كما اختار لها أبوها..

 آيةٌ مماذا يا تُرى؟ آيةٌ من المأساة أم آيةٌ من الجمال؟!!

آيةٌ من الصدمة أمْ آيةٌ من الحزن؟ وكيف سيكون عيد ميلاد آية في قادم السنوات؟ وكيف سوف تقفُ آية في ذكرى ميلادِها يا تُرى؟!

لسانُ حالها يقول هذه الأبيات الشعرية:

قُم يا أبي أَوَلَمْ تسمعْ.. أنا آية ْ

مالي سوى قُبلاتٍ منكَ مِنْ غايةْ

ألمْ تَعُدَّ شهورَ الحَمْلِ مُنتظرا

وتَعزفِ العودَ والكِيْتارَ والنّايَا

حلمتُ فيكَ بأني صرتُ يافعةً

تقولُ: (اعملي لي فطورَ الصبحِ و الشّايَا )

لكنْ رحلتَ ولم تصبر لِفرحَتِنا

نَمْ واطمئنّ سأحمي بعدك الراية

الوسوم

رابط مختصر : https://actionpal.org.uk/ar/post/19885