نضال خليل – خاص – مجموعة العمل
حصار اليرموك
في ذلك الوقت الذي بدأ فيه الحصار يُلجم نبض الحياة في المخيم لم يكن الهدف مجرد تدمير الجدران والحواجز بل كان أشبه بضربة وجودية تهزّ كيان المجتمع بأسره لقد تلاشى المقياس الذي اعتدنا عليه في الحياة الإنسانية وكأنّ الضياع كان هو الوجود الحقيقي حيث أدت القصفات المتتالية إلى انقطاع الإمدادات الحيوية معلنة بذلك بداية فصل من اليأس المتواصل وصمودٍ لا ينكسر رغم الألم وفي خضم هذه الظروف التي تخترق الروح برزت حاجة ملحّة لإعادة صياغة الذاكرة والهوية كما لو كان الزمن نفسه يُعيد ترتيب أوراقه مما دفع الناشطين والفنانين إلى البحث عن أدوات مقاومة تحول الألم إلى نبضة إبداعية تُعيد للمخيم ما فقد من جمال رغم كل التصدعات والكسور.
حكايات من قلب اليرموك
الفنان حسان حسان كأحد رموز اليرموك بفضل تجسيده لتجربة التعذيب ومعاناته الشخصية من خلال مبادرته مع مجموعة "ردّ فعل"، أطلق سلسلة "على هوى الحصار" التي اعتمدت على اسكتشات مرئية نشرت على الإنترنت لتروي بصورة نقدية ساخرة واقع الحياة داخل المخيم كان حسان كما يوحي اسمه بمثابة جرس إنذار يدعو إلى انتباه العالم إلى معاناة السكان ومأساة الحصار.
في عام 2016 قدمت الفنانة راما حيدر عرضها المسرحي والأدبي "صحراء الضوء"في جامعة كورنيل حيث لم تكتفِ بسرد تجارب اللاجئين والنازحين، بل رفعت نصها الأدبي إلى مستوى الشهادة الحية التي تتحدى النسيان من خلال المسرحية جسدت راما تحول الألم إلى عمل فني يرتقي بالذاكرة الجماعية مؤكدة على قدرة الفن في أن يكون أداة نضالية ضد العنف والصمت الإعلامي.
لم يقتصر النشاط الفني على المسرح والشاشة فقط، بل امتد إلى الخطاب الأدبي العميق فقد برع ثائر السهلي في صياغة نصوص ذات طابع شخصي واجتماعي أبرزها "رسالة في بريد البحر والصحراء" حيث جمع بين العمق الشعري والتحليل النقدي لتوثيق الحالة الإنسانية في المخيم مقدماً بذلك مرجعاً أدبياً يتحدى زوال الذاكرة رغم كل المحاولات.
عملت القاصة نردين أبو نبعة على تدوين معاناة السكان عبر روايات مستفيضة لعل أشهرها "سبعٌ شداد" فقد نقلت رواياتها تفاصيل دقيقة عن تجارب الحياة اليومية في ظل الحصار مع تسليط الضوء على أبعاد الهوية والذاكرة المتأثرة بالظروف القاسية وهكذا أصبحت الروايات جسوراً تربط بين الماضي والحاضر وتدعو إلى إعادة النظر في مفهوم الكرامة الإنسانية.
في غياب إعلام عالمي فاعل برز الإعلاميون والمصورون كأوصال تنقل الصورة الحقيقية لمعاناة اليرموك فقد خاطر مصورون مثل نيراز سعيد صاحب الصور الشهيرة لـ "الملوك الثلاثة" الذي اعتقل في أكتوبر 2015 واستشهد في ظروف مأساوية وجهاد الشهابي وفادي أبو عجاج وجمال خليفة وأحمد كوسا بأرواحهم وطرقهم الشجاعة في توثيق الانتهاكات والحياة اليومية وسط الدمار استخدم هؤلاء المصورون تقنيات التصوير الوثائقي لنقل صورة مرئية تعكس حجم المعاناة وتوثّق الوقائع بشفافية تامة.
لم يغب عن المشهد الفني الإعلامي أيضاً الفيلم الوثائقي فقد قام أحمد نوفل بإخراج فيلم"قصة مخيم" الذي قدم سرداً بصرياً متكاملاً لتجربة اليرموك اعتمد الفيلم على منهجية التصوير الواقعي الممزوج بالتحليل السردي متناولاً الأسباب والنتائج بصورة شاملة مما جعله مرجعاً هاماً لفهم التجربة الإنسانية في ظل الحصار.
في ظل غياب الإعلام التقليدي برزت مبادرات إعلامية مستقلة أدارها ناشطون مثل خالد بكراوي وبسام حميد وأحمد السهلي وأياد فرحات.
اعتمدت هذه المشاريع على المنصات الرقمية وتقنيات الاتصال البديل مما أتاح نقل شهادات مباشرة من قلب المخيم كانت هذه المبادرات بمثابة جسر يربط بين المخيم والعالم الخارجي مسلطة الضوء على معاناة السكان ومعبرة عن صوتهم الذي لا ينكسر.
شكلت الموسيقى والفنون البصرية جزءاً أساسياً من المقاومة الثقافية في اليرموك فقد استخدم الفنانون مثل سامر أبو حشيش ومحمد أنور أحمد (أبو كابي) ومحمود تميم وفرقة شباب اليرموك موسيقى الراب كوسيلة للتعبير عن معاناة المخيم كانت كلمات الأغاني وإيقاعاتها بمثابة ترانيم تحدٍ تعبر عن الألم المختلط بالأمل كما جسدت أغنية "صوت المخيم" التي أنتجها أيهم الأحمد عام 2016 ذلك التحدي القوي الذي يرفض الاستسلام في مواجهة الظروف القاسية.
لا يمكن إغفال دور الفن التشكيلي في سرد مآسي اليرموك حيث استخدم هاني عباس تقنيات الرسم الكاريكاتيري لتوثيق المشاهد الدموية التي تعكس جراح المخيم وفي أوروبا نقل مأمون الشايب ألوان المخيم إلى فضاءات بعيدة مؤكدًا أن الفن التشكيلي لا يزال وسيلة حيوية لتسجيل آثار الحصار على الهوية والذاكرة الجماعية.
تجسد تجربة اليرموك أرقاماً وإحصائيات مؤلمة عن فقدان الشهداء واحتجاز المعتقلين لكنها تحمل بين طياتها نموذجاً حياً يدعو إلى إعادة التفكير في دور الفن والإعلام كوسائل تحررية لقد استطاع الفنانون والمصورون والإعلاميون تحويل الألم إلى إبداع مقاوم معيدين بذلك صياغة الهوية وداعين إلى النضال من أجل الحرية والكرامة.
يشكل اليرموك شهادة على أن الظلم لا يمكن أن يطفئ شرارة الإبداع والنضال وأن كل قصيدة كل صورة وكل مشهد تحمل بصمتها رسالةً خالدةً تقول إن الإنسانية لن تُنسى وأن المقاومة ستظل حيةً رغم كل التحديات.
نضال خليل – خاص – مجموعة العمل
حصار اليرموك
في ذلك الوقت الذي بدأ فيه الحصار يُلجم نبض الحياة في المخيم لم يكن الهدف مجرد تدمير الجدران والحواجز بل كان أشبه بضربة وجودية تهزّ كيان المجتمع بأسره لقد تلاشى المقياس الذي اعتدنا عليه في الحياة الإنسانية وكأنّ الضياع كان هو الوجود الحقيقي حيث أدت القصفات المتتالية إلى انقطاع الإمدادات الحيوية معلنة بذلك بداية فصل من اليأس المتواصل وصمودٍ لا ينكسر رغم الألم وفي خضم هذه الظروف التي تخترق الروح برزت حاجة ملحّة لإعادة صياغة الذاكرة والهوية كما لو كان الزمن نفسه يُعيد ترتيب أوراقه مما دفع الناشطين والفنانين إلى البحث عن أدوات مقاومة تحول الألم إلى نبضة إبداعية تُعيد للمخيم ما فقد من جمال رغم كل التصدعات والكسور.
حكايات من قلب اليرموك
الفنان حسان حسان كأحد رموز اليرموك بفضل تجسيده لتجربة التعذيب ومعاناته الشخصية من خلال مبادرته مع مجموعة "ردّ فعل"، أطلق سلسلة "على هوى الحصار" التي اعتمدت على اسكتشات مرئية نشرت على الإنترنت لتروي بصورة نقدية ساخرة واقع الحياة داخل المخيم كان حسان كما يوحي اسمه بمثابة جرس إنذار يدعو إلى انتباه العالم إلى معاناة السكان ومأساة الحصار.
في عام 2016 قدمت الفنانة راما حيدر عرضها المسرحي والأدبي "صحراء الضوء"في جامعة كورنيل حيث لم تكتفِ بسرد تجارب اللاجئين والنازحين، بل رفعت نصها الأدبي إلى مستوى الشهادة الحية التي تتحدى النسيان من خلال المسرحية جسدت راما تحول الألم إلى عمل فني يرتقي بالذاكرة الجماعية مؤكدة على قدرة الفن في أن يكون أداة نضالية ضد العنف والصمت الإعلامي.
لم يقتصر النشاط الفني على المسرح والشاشة فقط، بل امتد إلى الخطاب الأدبي العميق فقد برع ثائر السهلي في صياغة نصوص ذات طابع شخصي واجتماعي أبرزها "رسالة في بريد البحر والصحراء" حيث جمع بين العمق الشعري والتحليل النقدي لتوثيق الحالة الإنسانية في المخيم مقدماً بذلك مرجعاً أدبياً يتحدى زوال الذاكرة رغم كل المحاولات.
عملت القاصة نردين أبو نبعة على تدوين معاناة السكان عبر روايات مستفيضة لعل أشهرها "سبعٌ شداد" فقد نقلت رواياتها تفاصيل دقيقة عن تجارب الحياة اليومية في ظل الحصار مع تسليط الضوء على أبعاد الهوية والذاكرة المتأثرة بالظروف القاسية وهكذا أصبحت الروايات جسوراً تربط بين الماضي والحاضر وتدعو إلى إعادة النظر في مفهوم الكرامة الإنسانية.
في غياب إعلام عالمي فاعل برز الإعلاميون والمصورون كأوصال تنقل الصورة الحقيقية لمعاناة اليرموك فقد خاطر مصورون مثل نيراز سعيد صاحب الصور الشهيرة لـ "الملوك الثلاثة" الذي اعتقل في أكتوبر 2015 واستشهد في ظروف مأساوية وجهاد الشهابي وفادي أبو عجاج وجمال خليفة وأحمد كوسا بأرواحهم وطرقهم الشجاعة في توثيق الانتهاكات والحياة اليومية وسط الدمار استخدم هؤلاء المصورون تقنيات التصوير الوثائقي لنقل صورة مرئية تعكس حجم المعاناة وتوثّق الوقائع بشفافية تامة.
لم يغب عن المشهد الفني الإعلامي أيضاً الفيلم الوثائقي فقد قام أحمد نوفل بإخراج فيلم"قصة مخيم" الذي قدم سرداً بصرياً متكاملاً لتجربة اليرموك اعتمد الفيلم على منهجية التصوير الواقعي الممزوج بالتحليل السردي متناولاً الأسباب والنتائج بصورة شاملة مما جعله مرجعاً هاماً لفهم التجربة الإنسانية في ظل الحصار.
في ظل غياب الإعلام التقليدي برزت مبادرات إعلامية مستقلة أدارها ناشطون مثل خالد بكراوي وبسام حميد وأحمد السهلي وأياد فرحات.
اعتمدت هذه المشاريع على المنصات الرقمية وتقنيات الاتصال البديل مما أتاح نقل شهادات مباشرة من قلب المخيم كانت هذه المبادرات بمثابة جسر يربط بين المخيم والعالم الخارجي مسلطة الضوء على معاناة السكان ومعبرة عن صوتهم الذي لا ينكسر.
شكلت الموسيقى والفنون البصرية جزءاً أساسياً من المقاومة الثقافية في اليرموك فقد استخدم الفنانون مثل سامر أبو حشيش ومحمد أنور أحمد (أبو كابي) ومحمود تميم وفرقة شباب اليرموك موسيقى الراب كوسيلة للتعبير عن معاناة المخيم كانت كلمات الأغاني وإيقاعاتها بمثابة ترانيم تحدٍ تعبر عن الألم المختلط بالأمل كما جسدت أغنية "صوت المخيم" التي أنتجها أيهم الأحمد عام 2016 ذلك التحدي القوي الذي يرفض الاستسلام في مواجهة الظروف القاسية.
لا يمكن إغفال دور الفن التشكيلي في سرد مآسي اليرموك حيث استخدم هاني عباس تقنيات الرسم الكاريكاتيري لتوثيق المشاهد الدموية التي تعكس جراح المخيم وفي أوروبا نقل مأمون الشايب ألوان المخيم إلى فضاءات بعيدة مؤكدًا أن الفن التشكيلي لا يزال وسيلة حيوية لتسجيل آثار الحصار على الهوية والذاكرة الجماعية.
تجسد تجربة اليرموك أرقاماً وإحصائيات مؤلمة عن فقدان الشهداء واحتجاز المعتقلين لكنها تحمل بين طياتها نموذجاً حياً يدعو إلى إعادة التفكير في دور الفن والإعلام كوسائل تحررية لقد استطاع الفنانون والمصورون والإعلاميون تحويل الألم إلى إبداع مقاوم معيدين بذلك صياغة الهوية وداعين إلى النضال من أجل الحرية والكرامة.
يشكل اليرموك شهادة على أن الظلم لا يمكن أن يطفئ شرارة الإبداع والنضال وأن كل قصيدة كل صورة وكل مشهد تحمل بصمتها رسالةً خالدةً تقول إن الإنسانية لن تُنسى وأن المقاومة ستظل حيةً رغم كل التحديات.