map
RSS instagram youtube twitter facebook Google Paly App stores

عدد الضحايا

حتى اليوم

4294

أن تحيا في مدينة تموت: سينما أنس زواهري وذاكرة الحصار

تاريخ النشر : 13-06-2025
أن تحيا في مدينة تموت: سينما أنس زواهري وذاكرة الحصار

 نضال الخليل –  مجموعة العمل

وُلد أنس زواهري عام 1987 في حيٍّ فلسطيني بمدينة اللاذقية السورية، لعائلةٍ نازحة من يافا إثر نكبة 1948. ترعرع بين روايات الأجداد عن أرضٍ ضائعة، وبين واقعٍ سوري صار فيه صوت المظلومين مكتومًا قبل اندلاع الثورة عام 2011. درس السينما وصناعة الأفلام الوثائقية في المعهد العالي للفنون المسرحية بدمشق، حيث تأثر بجيل المخرجين المستقلين، وطوّر أسلوبه الخاص القائم على التصوير الثابت والطويل، والتركيز على الصوت الطبيعي، والانغماس الميداني مع أصحاب الشأن.

حين اندلعت الثورة السورية في مارس 2011، اخترق أنس زواهري حصار حمص، وأمضى فيها ثمانية أشهر يمشي بين الركام، يصوّر قسوة الحصار، وتلاطم الأجساد، والحكايات الشظيّة. من تلك التجربة، خرج فيلمه الأول "صرخة روح" (2012)، الذي اهتزَّت له قاعات العروض في أوروبا قبل أن يطالها الصمت.

بعد ذلك، أطلق سلسلة "حكايا من بين الجدران" (2013–2014)، التي رسم فيها خريطة الألم اليومي للاجئين الفلسطينيين في مخيم اليرموك بدمشق، حيث تختلط رائحة الخبز المحروق بصراخ الأطفال الجائعين، فتتحول الجدران إلى سجلٍّ حيّ للمعاناة.

واليوم، في "ذكرياتي مليئة بالأشباح" (2024)، يصل زواهري إلى ذروة تجربته السينمائية. هو لا يروي الأحداث فحسب، بل يعيد بناء ذاكرة حمص ككيانٍ حيّ يرفض الانصياع للخراب.

"صرخة روح": عبثُ الحصار وشهقة الحياة

في "صرخة روح"، لا يرصد زواهري صوت القذائف فحسب، بل يصغي إلى أنين المدينة المتألمة. يفتتح الفيلم بلقطةٍ لوجه رجلٍ مسنّ، عيناه مترهلتان كالعتاد المنهار. لا تهم الكلمات هنا، بل الخشخشة التي تحدثها قدماه بين الأحجار. الصمت يملأ الشاشة، ثم ينقطع بهمسٍ: "أنا هنا".

هنا، يغدو الحصار تجربة وجودية بامتياز، يفقدُ الإنسانُ فيها شعوره بالأمان، فلا يفكّر سوى في سؤال واحد: كيف يحافظ على إنسانيته حين يكتشف أن الجحيم أقرب مما يتخيل؟

"حكايا من بين الجدران": جبهة الوجع اليومي

في هذه السلسلة، يتحول المخيم إلى شخصية رئيسية. ترتدي الجدرانُ أثوابَ الشهادة فتتكلم، وتحكي كيف أن كل ركنٍ هو قصة لا تنتهي. نسمع ضحكاتٍ خافتة لطفلٍ يلعب بحجرٍ متهاوٍ، ونرى أمًّا تطهو قرصها فوق موقدٍ بدائي، بينما فوق رأسها يرشق القتلى الصامتون الغبار.

تتشابك الحكايات هنا بشريانين: شريان الهوية اللاجئة وشريان الثورة. فلا تستطيع أن تفصل بين جوعٍ يفتك بالجسم، وتوقٍ يفتك بالروح. وصوت زواهري خلف الكاميرا يذكّرنا بما قاله كامو: "الحرية تبدأ حين نعلن عن الأسئلة الكبيرة في وجه الصمت المُطبِق". والمخيم في هذا الفيلم لا يصمت.

"ذكرياتي مليئة بالأشباح": المدينة – الذات – الأشباح

في مطلع الفيلم، تهبط الكاميرا فجأةً على ركام حمص، لا كزائرةٍ تبحث عن ظلّ، بل كجريحٍ رشقه الزمن في ساحةٍ بلا رحمة. لا رائحة دمٍ تصحبنا، بل غبارٌ يعلق في الحنايا، كأنما الثورة غرست بذور الذاكرة في كل حجرٍ متصدع.

الذاكرة كرحمٍ لا يلد سوى الأشباح

في همس المسنّ عن أسواق حمص قبل 2011، نسمع عشقًا ضائعًا يلامس الروح. وصراخ طفلٍ يلهو بين الأنقاض يرفع لحن الحرية الذي فقدناه. الأشباح هنا ليست كياناتٍ خارقة، بل خيوطٌ من الحنين لا تفارق وجدان المدينة.

النفس تحت وطأة الصدمة

تختار الكاميرا الزوايا الثابتة لتتجلى الوحدة بكل قسوتها. لا ملجأ للمشاهد سوى التحديق في الوجه الذي لا يسأل ولا يجيب. والصمت يختبر صلابة النفس: هل تصمد أمام حقيقة أن الحياة صراع ضد الفراغ؟

العبث والفلسفة: سؤالٌ بلا جوابٍ واحد

يحوّل الفيلم حمص إلى نصٍّ مفتوح لا يخضع لمعايير التوثيق التقليدية، حيث يصبح الدمار لغةً يصرخ بها الوجود، كأنه يقول: "أعلن عن حريتك أو اسكت إلى الأبد". لا إجابات جاهزة، بل أسئلةٌ تتوارى وتعود.

ثنائيات الفيلم: الصمت والضجيج - الدمار والأمل

يتأرجح العمل بين ثنائيات متضادة:

 . الصمت: لقطات طويلة لا يقطعها سوى صرير باب أو حفيف ورق.

 . الضجيج: نحيب امرأة، صوت راديوٍ مهترئ، ضحكات تكاد تكون استسلامًا.

 . الدمار: الركام بدل الشوارع، الأشجار المخرّمة بالرصاص.

 . الأمل: زهرة برتقال تنبت بين الحصى، رسمٌ على جدار يدعو إلى لقاءٍ تحت شجرةٍ مترهّلة.

كل ثنائية تستجوبنا: إلى أي جانبٍ ننتمي؟ هل نختار الصمت ونغلق الستائر، أم نخرج إلى العراء لنرفع صوتنا ولو كان خافتًا؟

في أفلام أنس زواهري، لا نرى الحكاية من الخارج، ولا نراقب من خلف زجاجٍ آمن، بل نحن هناك، في عمق الجرح المفتوح. الكاميرا ليست عينًا مراقبة، بل روحًا تتلمس الحطام وتبحث عن أثرِ حياةٍ بين الأنقاض. ومنذ "صرخة روح" إلى "حكايا من بين الجدران"، وصولًا إلى "ذكرياتي مليئة بالأشباح"، ظل زواهري يؤمن بأن السينما ليست ترفًا ولا سردًا، بل فعلُ مقاومةٍ ضد النسيان.

اليوم، بعد أن أسقطت الثورة السورية نظام بشار الأسد، وأعادت للناس أصواتهم، تصبح أفلام أنس زواهري وثائق لا تُقدّر بثمن. إنها ليست مجرد مشاهد من الماضي، بل أمانة أخلاقية تحمينا من خيانة الذاكرة. فهذه الأفلام، بما تحمله من وجعٍ وجمالٍ وجرأة، تمثل أرشيفًا حيًّا لذاكرة الثورة التي حاول النظام دفنها، وها هي تثبت أنها قادرة على النجاة، بل والانتصار.

إن ما صنعه زواهري لا ينتمي فقط إلى أرشيف السينما، بل إلى ضمير الناس. عمله يستحق أن يُحفظ، ويُدرّس، ويُعرض على الأجيال القادمة، لا ليبكوا، بل ليتذكروا أنهم كانوا شعبًا قاوم الحصار والموت، وصنع من أنقاض مدنه ثورةً، ومن أشباح ذاكرته وطنًا.

لذلك، تبقى ضرورة الاهتمام بإبداعاته مسألة تتجاوز الثقافة والفن إلى مسؤولية وطنية وإنسانية، لأن ما وثّقه زواهري ليس مجرد مشاهد، بل خرائط روحية لمكانٍ لن يعود كما كان، ولثورةٍ لا يجب أن تُنسى. فهو صوت المدن التي دفنها العالم مؤقتًا… لكنها اليوم — بعد سقوط الجلاد — تبدأ من جديد، وليكون لفنّه، أكثر من أي وقتٍ مضى، الكلمة الأولى.

الوسوم

رابط مختصر : http://actionpal.org.uk/ar/post/21629

 نضال الخليل –  مجموعة العمل

وُلد أنس زواهري عام 1987 في حيٍّ فلسطيني بمدينة اللاذقية السورية، لعائلةٍ نازحة من يافا إثر نكبة 1948. ترعرع بين روايات الأجداد عن أرضٍ ضائعة، وبين واقعٍ سوري صار فيه صوت المظلومين مكتومًا قبل اندلاع الثورة عام 2011. درس السينما وصناعة الأفلام الوثائقية في المعهد العالي للفنون المسرحية بدمشق، حيث تأثر بجيل المخرجين المستقلين، وطوّر أسلوبه الخاص القائم على التصوير الثابت والطويل، والتركيز على الصوت الطبيعي، والانغماس الميداني مع أصحاب الشأن.

حين اندلعت الثورة السورية في مارس 2011، اخترق أنس زواهري حصار حمص، وأمضى فيها ثمانية أشهر يمشي بين الركام، يصوّر قسوة الحصار، وتلاطم الأجساد، والحكايات الشظيّة. من تلك التجربة، خرج فيلمه الأول "صرخة روح" (2012)، الذي اهتزَّت له قاعات العروض في أوروبا قبل أن يطالها الصمت.

بعد ذلك، أطلق سلسلة "حكايا من بين الجدران" (2013–2014)، التي رسم فيها خريطة الألم اليومي للاجئين الفلسطينيين في مخيم اليرموك بدمشق، حيث تختلط رائحة الخبز المحروق بصراخ الأطفال الجائعين، فتتحول الجدران إلى سجلٍّ حيّ للمعاناة.

واليوم، في "ذكرياتي مليئة بالأشباح" (2024)، يصل زواهري إلى ذروة تجربته السينمائية. هو لا يروي الأحداث فحسب، بل يعيد بناء ذاكرة حمص ككيانٍ حيّ يرفض الانصياع للخراب.

"صرخة روح": عبثُ الحصار وشهقة الحياة

في "صرخة روح"، لا يرصد زواهري صوت القذائف فحسب، بل يصغي إلى أنين المدينة المتألمة. يفتتح الفيلم بلقطةٍ لوجه رجلٍ مسنّ، عيناه مترهلتان كالعتاد المنهار. لا تهم الكلمات هنا، بل الخشخشة التي تحدثها قدماه بين الأحجار. الصمت يملأ الشاشة، ثم ينقطع بهمسٍ: "أنا هنا".

هنا، يغدو الحصار تجربة وجودية بامتياز، يفقدُ الإنسانُ فيها شعوره بالأمان، فلا يفكّر سوى في سؤال واحد: كيف يحافظ على إنسانيته حين يكتشف أن الجحيم أقرب مما يتخيل؟

"حكايا من بين الجدران": جبهة الوجع اليومي

في هذه السلسلة، يتحول المخيم إلى شخصية رئيسية. ترتدي الجدرانُ أثوابَ الشهادة فتتكلم، وتحكي كيف أن كل ركنٍ هو قصة لا تنتهي. نسمع ضحكاتٍ خافتة لطفلٍ يلعب بحجرٍ متهاوٍ، ونرى أمًّا تطهو قرصها فوق موقدٍ بدائي، بينما فوق رأسها يرشق القتلى الصامتون الغبار.

تتشابك الحكايات هنا بشريانين: شريان الهوية اللاجئة وشريان الثورة. فلا تستطيع أن تفصل بين جوعٍ يفتك بالجسم، وتوقٍ يفتك بالروح. وصوت زواهري خلف الكاميرا يذكّرنا بما قاله كامو: "الحرية تبدأ حين نعلن عن الأسئلة الكبيرة في وجه الصمت المُطبِق". والمخيم في هذا الفيلم لا يصمت.

"ذكرياتي مليئة بالأشباح": المدينة – الذات – الأشباح

في مطلع الفيلم، تهبط الكاميرا فجأةً على ركام حمص، لا كزائرةٍ تبحث عن ظلّ، بل كجريحٍ رشقه الزمن في ساحةٍ بلا رحمة. لا رائحة دمٍ تصحبنا، بل غبارٌ يعلق في الحنايا، كأنما الثورة غرست بذور الذاكرة في كل حجرٍ متصدع.

الذاكرة كرحمٍ لا يلد سوى الأشباح

في همس المسنّ عن أسواق حمص قبل 2011، نسمع عشقًا ضائعًا يلامس الروح. وصراخ طفلٍ يلهو بين الأنقاض يرفع لحن الحرية الذي فقدناه. الأشباح هنا ليست كياناتٍ خارقة، بل خيوطٌ من الحنين لا تفارق وجدان المدينة.

النفس تحت وطأة الصدمة

تختار الكاميرا الزوايا الثابتة لتتجلى الوحدة بكل قسوتها. لا ملجأ للمشاهد سوى التحديق في الوجه الذي لا يسأل ولا يجيب. والصمت يختبر صلابة النفس: هل تصمد أمام حقيقة أن الحياة صراع ضد الفراغ؟

العبث والفلسفة: سؤالٌ بلا جوابٍ واحد

يحوّل الفيلم حمص إلى نصٍّ مفتوح لا يخضع لمعايير التوثيق التقليدية، حيث يصبح الدمار لغةً يصرخ بها الوجود، كأنه يقول: "أعلن عن حريتك أو اسكت إلى الأبد". لا إجابات جاهزة، بل أسئلةٌ تتوارى وتعود.

ثنائيات الفيلم: الصمت والضجيج - الدمار والأمل

يتأرجح العمل بين ثنائيات متضادة:

 . الصمت: لقطات طويلة لا يقطعها سوى صرير باب أو حفيف ورق.

 . الضجيج: نحيب امرأة، صوت راديوٍ مهترئ، ضحكات تكاد تكون استسلامًا.

 . الدمار: الركام بدل الشوارع، الأشجار المخرّمة بالرصاص.

 . الأمل: زهرة برتقال تنبت بين الحصى، رسمٌ على جدار يدعو إلى لقاءٍ تحت شجرةٍ مترهّلة.

كل ثنائية تستجوبنا: إلى أي جانبٍ ننتمي؟ هل نختار الصمت ونغلق الستائر، أم نخرج إلى العراء لنرفع صوتنا ولو كان خافتًا؟

في أفلام أنس زواهري، لا نرى الحكاية من الخارج، ولا نراقب من خلف زجاجٍ آمن، بل نحن هناك، في عمق الجرح المفتوح. الكاميرا ليست عينًا مراقبة، بل روحًا تتلمس الحطام وتبحث عن أثرِ حياةٍ بين الأنقاض. ومنذ "صرخة روح" إلى "حكايا من بين الجدران"، وصولًا إلى "ذكرياتي مليئة بالأشباح"، ظل زواهري يؤمن بأن السينما ليست ترفًا ولا سردًا، بل فعلُ مقاومةٍ ضد النسيان.

اليوم، بعد أن أسقطت الثورة السورية نظام بشار الأسد، وأعادت للناس أصواتهم، تصبح أفلام أنس زواهري وثائق لا تُقدّر بثمن. إنها ليست مجرد مشاهد من الماضي، بل أمانة أخلاقية تحمينا من خيانة الذاكرة. فهذه الأفلام، بما تحمله من وجعٍ وجمالٍ وجرأة، تمثل أرشيفًا حيًّا لذاكرة الثورة التي حاول النظام دفنها، وها هي تثبت أنها قادرة على النجاة، بل والانتصار.

إن ما صنعه زواهري لا ينتمي فقط إلى أرشيف السينما، بل إلى ضمير الناس. عمله يستحق أن يُحفظ، ويُدرّس، ويُعرض على الأجيال القادمة، لا ليبكوا، بل ليتذكروا أنهم كانوا شعبًا قاوم الحصار والموت، وصنع من أنقاض مدنه ثورةً، ومن أشباح ذاكرته وطنًا.

لذلك، تبقى ضرورة الاهتمام بإبداعاته مسألة تتجاوز الثقافة والفن إلى مسؤولية وطنية وإنسانية، لأن ما وثّقه زواهري ليس مجرد مشاهد، بل خرائط روحية لمكانٍ لن يعود كما كان، ولثورةٍ لا يجب أن تُنسى. فهو صوت المدن التي دفنها العالم مؤقتًا… لكنها اليوم — بعد سقوط الجلاد — تبدأ من جديد، وليكون لفنّه، أكثر من أي وقتٍ مضى، الكلمة الأولى.

الوسوم

رابط مختصر : http://actionpal.org.uk/ar/post/21629