map
RSS instagram youtube twitter facebook Google Paly App stores

عدد الضحايا

حتى اليوم

4294

في أفق الذاكرة والحرية. تأملات فلسطينية سورية في زمن التحول

تاريخ النشر : 29-07-2025
في أفق الذاكرة والحرية. تأملات فلسطينية سورية في زمن التحول

مجموعة العمل ــ نضال الخليل

في ثنايا لحظة تبدّلٍ كليّ، حين تتهاوى بُنى السلطة القديمة ويجد الفلسطيني-السوري نفسه أمام مشهدٍ جديدٍ تتشابك فيه أدوات السياسة والذاكرة والوجدان، تبرز الحاجة الملحّة إلى تأملٍ عميقٍ يسبق رسم الخرائط وكتابة الدساتير.

فهذا الفكر لا يبدأ من مرايا المجالس الرسمية أو قاعات التفاوض، بل من زوايا المخيّمات المدمرة حيث تُولَدُ يوميّاً معانٍ للجوء لم ينتهِ بعد، ومن حنايا البيوت المُهجّرة التي ما انفكت تحرس أنين الحجر المتصدّع والتاريخَ الحبيس في الجدران.

حين تطأ قدمُ الزائر مخيّم اليرموك للمرة الأولى بعد سنوات الغياب، لا يكفيه إحصاء الحفر وتعداد الأنقاض، بل ينهل أول ما ينهل من نبرةٍ تصدح بين أزقته تحمل مأساتين متداخلتين: مأساة الفراغ على الأرض، ومأساة الامتلاء بالصمت في النفوس.

في تلك الأزقة، يتلوّى الحاضر بين صوت أم رائد وهي تنثر كلماتها في الفراغ: «هنا، حيث صارت شظايا الجدران إرث الألم… تجدُ في كل قطعة طاقةً مستثارةً لمقاومة النسيان».

وصدى صوت محمود، الذي عبّر عبر الشاشة وحيداً طيلة سنوات الدراسة عن روحٍ تمردت على القاعات الرقمية لتقول: «لا يكفي أن نعيد بناء الصفوف، بل علينا أولاً أن نبني فينا سؤال الوجود قبل أن ينهض فينا بناء الوطن».

إن هذا الحسّ بالذاكرة الجماعية لا يستدعي مجرد توثيقٍ سرديّ، بل هو دعوةٌ لإعادة تنشيط العلاقة بين الماضي والحاضر، لا باعتباره وصيّةً جامدة، بل كمختبرٍ نغزل فيه سؤال الحرية. فالذاكرة هنا ليست صندوقاً يُقفل بعد تدوين الوقائع، بل هي شرارةٌ لا تنطفئ، تنبش فينا رغبةً في مساءلة الموروثات السياسية والاجتماعية التي رافقت روايات التهجير. ومن يرفض هذا الانشطار بين الذاكرة الموزّعة على دفاتر المكاتب الحكومية ويطالب بإعادة صياغتها، يعيد بناء الحد الفاصل بين الضحية والفاعلية.

وفي حين تتحول مقرات الإغاثة إلى واجهاتٍ رسميةٍ تضع جدولاً زمنيّاً لتأخير المعونات أو تفرض اشتراطاتٍ سياسية للعودة، نجد أنفسنا أمام مفارقةٍ قاتلة: أولئك الذين أضحوا رهائن للمواعيد والقناطر الإدارية يستحقون خطاباً نقدياً لا يكتفي بكشف العطب الآني، بل يذهب إلى قلب الآليات الخفية التي تحيط بعملية التوزيع. إن مسألة نقد الإغاثة تتطلب قراءةً تتجاوز بيانات المنظمات الدولية إلى متابعة مسار كلّ دولارٍ يُرسل عبر تلك القنوات، وفكّ شفرة كلّ بندٍ مشروطٍ يقف خلفه ابتزازٌ علنيٌّ أو شبهُ خفيّ.

حين تُحوَّل جداول التأخير إلى فنٍّ سرديٍّ يعرّي الإخلال ويطالب بمساءلةٍ علنية، ينتزع اللاجئ دوره كاملاً كشريكٍ في صنع القرار، لا كجسدٍ قاتمٍ تحت وطأة التعاطف المؤقت.

لم تكن المواطنة يوماً بطاقةً ورقيةً يُختَزَلُ فيها حضور الشخص باسمٍ وتوقيعٍ وطنيّ، بل هي مشروعٌ بنائيّ ومستمرٌّ يمتحن حيويته في تلك اللحظة التي يتبادل فيها جدارٌ متهالكٌ وقفة التحدّي مع فرشاة فنانٍ يرسم فوقه خارطة النزوح.

عندما يحضر الفنّ كعنصرٍ مقاومٍ، لا باعتباره ترفاً جمالياً، بل كضوءٍ يخترق رداء العزلة، فإنه يعلن بداية تحرّر الجماعة من القالب السكوني. في درعا، حيث تُقرأ قصصُ الأطفال عن العودة على منصةٍ مفتوحة، يبزغ سؤال: كيف يمكن للخيال أن يُعيد تعريف مفهوم الوطن قبل أن يُكتب على الخرائط؟

تتداخل هنا مسيرة التعليم النقدي مع التجارب الثقافية والملتقيات الشعبية التي تخرق صمت الصالات الرسمية. حين يتبادل الناس نصوصاً وقصائدَ وقصصاً قصيرةً في مقهى متهالك، لا يعود الحديث عن منحةٍ أو مشروعٍ حكوميّ، بل عن صياغة شروط العيش والكرامة وحقّ السؤال. ومن يتلمّس هذه الممارسة، يعرف أن عمق الفكر لا يولد إلا في مساحات التجمع الحر، حيث يصبح النقاش فعل مواجهةٍ معرفيةٍ وثقافيةٍ وسياسيةٍ معاً.

وفي هذا الأفق الذي ينسج خيوط الحاضر والمستقبل، يتضح أن السباق الحقيقي ليس على المناصب الزائلة أو حصص إعادة الإعمار، بل هو رهانٌ ذهنيٌّ يؤمن بأن المعرفة الصادرة عن نبض المخيّمات، وتثوير الجسد بالأسئلة، هي الحِلْف الذي يقيم تماسكنا أمام كل محاولةٍ لتهميشنا. إن مستويات المساءلة والحرية تنبت في تربةٍ صالحةٍ حين تُزرع فيها الأفكار قبل أن تُنفخ فيها الأرواح. وحين لا يعود هناك فرقٌ بين من يكتب التاريخ ومن يعيش تفاصيله، يصبح الجميع هنا شهوداً وفاعلين ومساءلين، قبل أن يكونوا مجرد مواطنين في دفاتر المؤسسات.

الوسوم

رابط مختصر : http://actionpal.org.uk/ar/post/21810

مجموعة العمل ــ نضال الخليل

في ثنايا لحظة تبدّلٍ كليّ، حين تتهاوى بُنى السلطة القديمة ويجد الفلسطيني-السوري نفسه أمام مشهدٍ جديدٍ تتشابك فيه أدوات السياسة والذاكرة والوجدان، تبرز الحاجة الملحّة إلى تأملٍ عميقٍ يسبق رسم الخرائط وكتابة الدساتير.

فهذا الفكر لا يبدأ من مرايا المجالس الرسمية أو قاعات التفاوض، بل من زوايا المخيّمات المدمرة حيث تُولَدُ يوميّاً معانٍ للجوء لم ينتهِ بعد، ومن حنايا البيوت المُهجّرة التي ما انفكت تحرس أنين الحجر المتصدّع والتاريخَ الحبيس في الجدران.

حين تطأ قدمُ الزائر مخيّم اليرموك للمرة الأولى بعد سنوات الغياب، لا يكفيه إحصاء الحفر وتعداد الأنقاض، بل ينهل أول ما ينهل من نبرةٍ تصدح بين أزقته تحمل مأساتين متداخلتين: مأساة الفراغ على الأرض، ومأساة الامتلاء بالصمت في النفوس.

في تلك الأزقة، يتلوّى الحاضر بين صوت أم رائد وهي تنثر كلماتها في الفراغ: «هنا، حيث صارت شظايا الجدران إرث الألم… تجدُ في كل قطعة طاقةً مستثارةً لمقاومة النسيان».

وصدى صوت محمود، الذي عبّر عبر الشاشة وحيداً طيلة سنوات الدراسة عن روحٍ تمردت على القاعات الرقمية لتقول: «لا يكفي أن نعيد بناء الصفوف، بل علينا أولاً أن نبني فينا سؤال الوجود قبل أن ينهض فينا بناء الوطن».

إن هذا الحسّ بالذاكرة الجماعية لا يستدعي مجرد توثيقٍ سرديّ، بل هو دعوةٌ لإعادة تنشيط العلاقة بين الماضي والحاضر، لا باعتباره وصيّةً جامدة، بل كمختبرٍ نغزل فيه سؤال الحرية. فالذاكرة هنا ليست صندوقاً يُقفل بعد تدوين الوقائع، بل هي شرارةٌ لا تنطفئ، تنبش فينا رغبةً في مساءلة الموروثات السياسية والاجتماعية التي رافقت روايات التهجير. ومن يرفض هذا الانشطار بين الذاكرة الموزّعة على دفاتر المكاتب الحكومية ويطالب بإعادة صياغتها، يعيد بناء الحد الفاصل بين الضحية والفاعلية.

وفي حين تتحول مقرات الإغاثة إلى واجهاتٍ رسميةٍ تضع جدولاً زمنيّاً لتأخير المعونات أو تفرض اشتراطاتٍ سياسية للعودة، نجد أنفسنا أمام مفارقةٍ قاتلة: أولئك الذين أضحوا رهائن للمواعيد والقناطر الإدارية يستحقون خطاباً نقدياً لا يكتفي بكشف العطب الآني، بل يذهب إلى قلب الآليات الخفية التي تحيط بعملية التوزيع. إن مسألة نقد الإغاثة تتطلب قراءةً تتجاوز بيانات المنظمات الدولية إلى متابعة مسار كلّ دولارٍ يُرسل عبر تلك القنوات، وفكّ شفرة كلّ بندٍ مشروطٍ يقف خلفه ابتزازٌ علنيٌّ أو شبهُ خفيّ.

حين تُحوَّل جداول التأخير إلى فنٍّ سرديٍّ يعرّي الإخلال ويطالب بمساءلةٍ علنية، ينتزع اللاجئ دوره كاملاً كشريكٍ في صنع القرار، لا كجسدٍ قاتمٍ تحت وطأة التعاطف المؤقت.

لم تكن المواطنة يوماً بطاقةً ورقيةً يُختَزَلُ فيها حضور الشخص باسمٍ وتوقيعٍ وطنيّ، بل هي مشروعٌ بنائيّ ومستمرٌّ يمتحن حيويته في تلك اللحظة التي يتبادل فيها جدارٌ متهالكٌ وقفة التحدّي مع فرشاة فنانٍ يرسم فوقه خارطة النزوح.

عندما يحضر الفنّ كعنصرٍ مقاومٍ، لا باعتباره ترفاً جمالياً، بل كضوءٍ يخترق رداء العزلة، فإنه يعلن بداية تحرّر الجماعة من القالب السكوني. في درعا، حيث تُقرأ قصصُ الأطفال عن العودة على منصةٍ مفتوحة، يبزغ سؤال: كيف يمكن للخيال أن يُعيد تعريف مفهوم الوطن قبل أن يُكتب على الخرائط؟

تتداخل هنا مسيرة التعليم النقدي مع التجارب الثقافية والملتقيات الشعبية التي تخرق صمت الصالات الرسمية. حين يتبادل الناس نصوصاً وقصائدَ وقصصاً قصيرةً في مقهى متهالك، لا يعود الحديث عن منحةٍ أو مشروعٍ حكوميّ، بل عن صياغة شروط العيش والكرامة وحقّ السؤال. ومن يتلمّس هذه الممارسة، يعرف أن عمق الفكر لا يولد إلا في مساحات التجمع الحر، حيث يصبح النقاش فعل مواجهةٍ معرفيةٍ وثقافيةٍ وسياسيةٍ معاً.

وفي هذا الأفق الذي ينسج خيوط الحاضر والمستقبل، يتضح أن السباق الحقيقي ليس على المناصب الزائلة أو حصص إعادة الإعمار، بل هو رهانٌ ذهنيٌّ يؤمن بأن المعرفة الصادرة عن نبض المخيّمات، وتثوير الجسد بالأسئلة، هي الحِلْف الذي يقيم تماسكنا أمام كل محاولةٍ لتهميشنا. إن مستويات المساءلة والحرية تنبت في تربةٍ صالحةٍ حين تُزرع فيها الأفكار قبل أن تُنفخ فيها الأرواح. وحين لا يعود هناك فرقٌ بين من يكتب التاريخ ومن يعيش تفاصيله، يصبح الجميع هنا شهوداً وفاعلين ومساءلين، قبل أن يكونوا مجرد مواطنين في دفاتر المؤسسات.

الوسوم

رابط مختصر : http://actionpal.org.uk/ar/post/21810