map
RSS instagram youtube twitter facebook Google Paly App stores

عدد الضحايا

حتى اليوم

4294

زمن المفقودين: سردية الفلسطيني السوري بين الغياب والانتظار

تاريخ النشر : 16-09-2025
زمن المفقودين: سردية الفلسطيني السوري بين الغياب والانتظار

نضال الخليل – مجموعة العمل

ثمة غياب يشبه قيدًا على الروح غيابٌ لا يُعاش بصفته حدثًا منتهيًا، بل كزمن مستمر

 الفلسطينيون في سوريا في سنوات ما بعد 2011 لم يعرفوا الفقدان العادي، بل عرفوا الغياب المعلَّق الغياب الذي يُبقي الجرح مفتوحًا ويحوّل العائلة إلى مسرح يومي للانتظار.

حينما غاب سامر عيسى الشاب الذي لم يتجاوز الثلاثين لم يكن غيابه خبرًا واحدًا في دفتر العائلة، بل صار مركز حياتهم كلها.

 الأم صارت تترقب أي دويّ في الشارع لعلّه إشارة - الأب بدأ يشيخ على عتبة البيت أسرع مما يسمح له العمر - الأطفال الذين تعلموا في المدارس أن الغياب يعني السفر أو الموت وجدوا أنفسهم أمام تعريف جديد - الغياب يعني أن تظل في مكانك بينما يبتلعك المجهول أن تكون حيًّا وربما ميتًا في آنٍ واحد

في المخيم غياب سامر لم يكن غيابًا فرديًا اسمه يلتقي بأسماء أخرى في الممرات المظلمة

أحمد موسى الذي كان يعزف العود في أمسيات صغيرة داخل مخيم اليرموك صوته وعوده أصبحا مجرد ذكرى عالقة في البيوت التي لم تعد تعرف الفرح

محمد عوض الذي كان يبيع الكتب في بسطة متواضعة لم يعد موجودًا ليحاور الأطفال حول حكايات التاريخ والأساطير

 رامي يوسف الذي كان يحلم بالالتحاق بالجامعة اختفى على حاجز عسكري ذات ليلة تاركًا حلمه في الهواء مثل ورقة لا تجد أرضًا تهبط عليها.

هؤلاء ليسوا مجرد أسماء في قائمة، بل هم علامات على زمن الفلسطيني في سوريا زمن يُختطف فيه المرء من حياته ويُترك أهله في انتظار يطول بلا جواب.

العائلة كحقل للذاكرة الممزقة

حين يُغيب أحدهم قسرًا لا تُختطف روحه فقط، بل يُختطف الزمن كله من حوله العائلة تجد نفسها محاصرة بثلاث طبقات من الأسئلة:

1.        أسئلة الحاضر: أين هو الآن؟ هل يتنفس؟ هل يسمع أصواتنا في مكان ما؟

2.        أسئلة الماضي: هل كان يمكن إنقاذه لو أنه غيّر طريقه ذلك اليوم؟ لو لم يشارك في تلك المظاهرة؟ لو ظل صامتًا قليلًا؟

3.        أسئلة المستقبل: هل سيعود يومًا؟ وإن عاد أيّ هيئة سيكون عليها؟ هل سيكون كما تركناه أم نسخة مشوّهة من ذاته؟

هذه الأسئلة لا تُطرح لتُجاب، بل تُطرح كي تظل العائلة يقظة إنّها آلية بقاء لكنها في الوقت ذاته آلية موت بطيء.

 فالأم التي تحفظ قميص ابنها المغيّب لسنوات لا تفعل ذلك حبًا في القماش، بل لأنها تعرف أن الرائحة آخر ما يمكن أن يثبت أن الغياب ليس اختفاءً كليًا

المخيم كزمنٍ مكسور

المخيمات الفلسطينية في سوريا، اليرموك، سبينة، جرمانا، خان دنون .....، لم تعد مجرد أماكن للسكن، بل تحوّلت إلى متاحف للغياب في كل جدار صورة لشاب مفقود في كل ركن حكاية عن اعتقال لم يُعرف سببه.

 المخيم بات فضاءً نفسيًا حيث الحاضر لا يكتمل أبدًا وحيث الماضي يزاحم المستقبل على أرصفة الخبز والماء.

في اليرموك تحديدًا يُمكن أن تسمع قصصًا تتكرر بنفس النغمة - عائلة تبحث منذ عشر سنوات عن ابنها الذي اعتُقل من بيته ولم يُعرف مصيره. بعضهم يروي الحكاية ببرود كأنها أمر معتاد، وبعضهم يبكيها كما لو أن الفقد حدث بالأمس. هذا التكرار يُحوّل الغياب إلى هوية جماعية، يجعل المخيم نفسه جسدًا كبيرًا يحمل ندوبًا لا تندمل.

الفلسفة الوجودية للغياب

ما معنى أن يغيب شخص قسرًا؟

إنّه ليس موتًا لأن الموت يمنح على الأقل يقينًا يمكن العيش معه وليس حياة لأن الحياة تعني الحضور الفعلي والتواصل الغياب القسري إذن هو حياةٌ بلا يقين موتٌ بلا جنازة.

هذا الغياب يعيد تعريف معنى العدالة، العدالة هنا ليست محاكمة جلاد بل مجرد معرفة الحقيقة:

-          هل هو حي أم ميت؟

-          هل تعذّب؟

-          هل دفن في حفرة جماعية؟

-          أم ما زال ينتظر في زنزانة مظلمة؟

إنّها عدالة أوليّة بدائية لكنها الأكثر استعصاء في سوريا.

الأثر النفسي والاجتماعي

غياب المغيّبين الفلسطينيين لم يدمّر فقط العائلات، بل أعاد تشكيل العلاقات الاجتماعية كلها الجيران الذين كانوا يجتمعون في الأفراح والأتراح صاروا يخشون الكلام كل حكاية عن مفقود تحمل معها رعبًا إضافيًا - من سيكون التالي؟

في خان دنون مثلًا عائلة ياسر طه انتظرت ابنها الذي اعتُقل عام 2013 وكانت كل ليلة تضع الطعام على الطاولة كما لو أنه سيعود فجأة بعد خمس سنوات توقفت العائلة عن هذه الطقوس لكنهم لم يتوقفوا عن الانتظار هذا الانتظار نفسه صار هوية العائلة صار طقسها اليومي وصار ألمها المستمر.

غياب الفلسطينيين قسرًا في سوريا لم يكن مجرد نتيجة جانبية للحرب، بل كان استراتيجية صامتة لإعادة تشكيل المخيمات وذاكرتها فالمخيم الذي يُفرَّغ من شبابه يتحول إلى جسد بلا مستقبل إلى ذاكرة بلا أفق وهكذا لم يكن الغياب مجرد فعل قمعي، بل أداة لإعادة صياغة الوجود الفلسطيني داخل الجغرافيا السورية.

إن الحديث عن سامر عيسى- أحمد موسى - محمد عوض - رامي يوسف وغيرهم كثيرون لا يعني فقط استدعاء أسماء من غياهب السجون، بل يعني مواجهة سؤال وجودي:

-          كيف يمكن للذاكرة أن تحافظ على حياة أشخاص مُعلقين بين الموت والحياة؟

-          كيف يمكن لعائلاتهم أن تعيش حاضرًا طبيعيًا بينما الحاضر نفسه رهينة الغياب؟

إنهم ليسوا مفقودين فحسب إنهم يحضرون في غيابهم يعيدون تشكيل حياة من حولهم يفرضون على الزمن أن يتعثر وعلى المكان أن يتشقق

 هم باختفائهم يعلّموننا أن الغياب القسري ليس حدثًا بل بنية كاملة للحياة نوع من القدر الذي يعيد تعريف معنى أن تكون إنسانًا.

الوسوم

رابط مختصر : http://actionpal.org.uk/ar/post/22009

نضال الخليل – مجموعة العمل

ثمة غياب يشبه قيدًا على الروح غيابٌ لا يُعاش بصفته حدثًا منتهيًا، بل كزمن مستمر

 الفلسطينيون في سوريا في سنوات ما بعد 2011 لم يعرفوا الفقدان العادي، بل عرفوا الغياب المعلَّق الغياب الذي يُبقي الجرح مفتوحًا ويحوّل العائلة إلى مسرح يومي للانتظار.

حينما غاب سامر عيسى الشاب الذي لم يتجاوز الثلاثين لم يكن غيابه خبرًا واحدًا في دفتر العائلة، بل صار مركز حياتهم كلها.

 الأم صارت تترقب أي دويّ في الشارع لعلّه إشارة - الأب بدأ يشيخ على عتبة البيت أسرع مما يسمح له العمر - الأطفال الذين تعلموا في المدارس أن الغياب يعني السفر أو الموت وجدوا أنفسهم أمام تعريف جديد - الغياب يعني أن تظل في مكانك بينما يبتلعك المجهول أن تكون حيًّا وربما ميتًا في آنٍ واحد

في المخيم غياب سامر لم يكن غيابًا فرديًا اسمه يلتقي بأسماء أخرى في الممرات المظلمة

أحمد موسى الذي كان يعزف العود في أمسيات صغيرة داخل مخيم اليرموك صوته وعوده أصبحا مجرد ذكرى عالقة في البيوت التي لم تعد تعرف الفرح

محمد عوض الذي كان يبيع الكتب في بسطة متواضعة لم يعد موجودًا ليحاور الأطفال حول حكايات التاريخ والأساطير

 رامي يوسف الذي كان يحلم بالالتحاق بالجامعة اختفى على حاجز عسكري ذات ليلة تاركًا حلمه في الهواء مثل ورقة لا تجد أرضًا تهبط عليها.

هؤلاء ليسوا مجرد أسماء في قائمة، بل هم علامات على زمن الفلسطيني في سوريا زمن يُختطف فيه المرء من حياته ويُترك أهله في انتظار يطول بلا جواب.

العائلة كحقل للذاكرة الممزقة

حين يُغيب أحدهم قسرًا لا تُختطف روحه فقط، بل يُختطف الزمن كله من حوله العائلة تجد نفسها محاصرة بثلاث طبقات من الأسئلة:

1.        أسئلة الحاضر: أين هو الآن؟ هل يتنفس؟ هل يسمع أصواتنا في مكان ما؟

2.        أسئلة الماضي: هل كان يمكن إنقاذه لو أنه غيّر طريقه ذلك اليوم؟ لو لم يشارك في تلك المظاهرة؟ لو ظل صامتًا قليلًا؟

3.        أسئلة المستقبل: هل سيعود يومًا؟ وإن عاد أيّ هيئة سيكون عليها؟ هل سيكون كما تركناه أم نسخة مشوّهة من ذاته؟

هذه الأسئلة لا تُطرح لتُجاب، بل تُطرح كي تظل العائلة يقظة إنّها آلية بقاء لكنها في الوقت ذاته آلية موت بطيء.

 فالأم التي تحفظ قميص ابنها المغيّب لسنوات لا تفعل ذلك حبًا في القماش، بل لأنها تعرف أن الرائحة آخر ما يمكن أن يثبت أن الغياب ليس اختفاءً كليًا

المخيم كزمنٍ مكسور

المخيمات الفلسطينية في سوريا، اليرموك، سبينة، جرمانا، خان دنون .....، لم تعد مجرد أماكن للسكن، بل تحوّلت إلى متاحف للغياب في كل جدار صورة لشاب مفقود في كل ركن حكاية عن اعتقال لم يُعرف سببه.

 المخيم بات فضاءً نفسيًا حيث الحاضر لا يكتمل أبدًا وحيث الماضي يزاحم المستقبل على أرصفة الخبز والماء.

في اليرموك تحديدًا يُمكن أن تسمع قصصًا تتكرر بنفس النغمة - عائلة تبحث منذ عشر سنوات عن ابنها الذي اعتُقل من بيته ولم يُعرف مصيره. بعضهم يروي الحكاية ببرود كأنها أمر معتاد، وبعضهم يبكيها كما لو أن الفقد حدث بالأمس. هذا التكرار يُحوّل الغياب إلى هوية جماعية، يجعل المخيم نفسه جسدًا كبيرًا يحمل ندوبًا لا تندمل.

الفلسفة الوجودية للغياب

ما معنى أن يغيب شخص قسرًا؟

إنّه ليس موتًا لأن الموت يمنح على الأقل يقينًا يمكن العيش معه وليس حياة لأن الحياة تعني الحضور الفعلي والتواصل الغياب القسري إذن هو حياةٌ بلا يقين موتٌ بلا جنازة.

هذا الغياب يعيد تعريف معنى العدالة، العدالة هنا ليست محاكمة جلاد بل مجرد معرفة الحقيقة:

-          هل هو حي أم ميت؟

-          هل تعذّب؟

-          هل دفن في حفرة جماعية؟

-          أم ما زال ينتظر في زنزانة مظلمة؟

إنّها عدالة أوليّة بدائية لكنها الأكثر استعصاء في سوريا.

الأثر النفسي والاجتماعي

غياب المغيّبين الفلسطينيين لم يدمّر فقط العائلات، بل أعاد تشكيل العلاقات الاجتماعية كلها الجيران الذين كانوا يجتمعون في الأفراح والأتراح صاروا يخشون الكلام كل حكاية عن مفقود تحمل معها رعبًا إضافيًا - من سيكون التالي؟

في خان دنون مثلًا عائلة ياسر طه انتظرت ابنها الذي اعتُقل عام 2013 وكانت كل ليلة تضع الطعام على الطاولة كما لو أنه سيعود فجأة بعد خمس سنوات توقفت العائلة عن هذه الطقوس لكنهم لم يتوقفوا عن الانتظار هذا الانتظار نفسه صار هوية العائلة صار طقسها اليومي وصار ألمها المستمر.

غياب الفلسطينيين قسرًا في سوريا لم يكن مجرد نتيجة جانبية للحرب، بل كان استراتيجية صامتة لإعادة تشكيل المخيمات وذاكرتها فالمخيم الذي يُفرَّغ من شبابه يتحول إلى جسد بلا مستقبل إلى ذاكرة بلا أفق وهكذا لم يكن الغياب مجرد فعل قمعي، بل أداة لإعادة صياغة الوجود الفلسطيني داخل الجغرافيا السورية.

إن الحديث عن سامر عيسى- أحمد موسى - محمد عوض - رامي يوسف وغيرهم كثيرون لا يعني فقط استدعاء أسماء من غياهب السجون، بل يعني مواجهة سؤال وجودي:

-          كيف يمكن للذاكرة أن تحافظ على حياة أشخاص مُعلقين بين الموت والحياة؟

-          كيف يمكن لعائلاتهم أن تعيش حاضرًا طبيعيًا بينما الحاضر نفسه رهينة الغياب؟

إنهم ليسوا مفقودين فحسب إنهم يحضرون في غيابهم يعيدون تشكيل حياة من حولهم يفرضون على الزمن أن يتعثر وعلى المكان أن يتشقق

 هم باختفائهم يعلّموننا أن الغياب القسري ليس حدثًا بل بنية كاملة للحياة نوع من القدر الذي يعيد تعريف معنى أن تكون إنسانًا.

الوسوم

رابط مختصر : http://actionpal.org.uk/ar/post/22009